الأربعاء 24 أبريل 2024 08:38 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

أسعد سليم يكتب : خرافات صاحب المقال !

الكاتب اسعد سليم
الكاتب اسعد سليم

لست سينمائيًا ولا ناقدًا فنيًا متخصصًا، لكن من منا لم تبهره السينما ولم يخر مذعنًا لمتعتها، مناقشًا أفكارها، متأثرًا بأجوائها؟

تابع الجميع الضجة الكبرى التي أثارها فيلم الأستاذ إبراهيم عيسى الجديد &صاحب المقام&، وأنا هنا أنسب الفيلم لمؤلفه وليس لمخرجه محمد العدل ليس تقليلًا من إمكانيات طاقم عمل الفيلم، ولكن لأن إبراهيم عيسى هو حقًا صاحب المقام، فلا يمكننا التعامل مع عيسى على أنه كاتب سيناريو وفقط، بل لا يمكن تجاهل أنه صحفى من الطراز الرفيع وصاحب موقف سياسى دفع ثمنه راضيًا، وروائى حقق بعضًا من النجاح لا يمكن إنكاره، لكنى لمست نوعين من النقد والنقاد في التعامل مع ظاهرة إيراهيم عيسى، النوعية الأولى هو ما أطلقت عليه &نقد الكراهية&، والمقصود به اتخاذ موقف سلبى من أفكار ومواقف الرجل وهو ما يترتب عليه بناء رأى نقدى سلبى مسبق نابع من كراهية المنقود حتى قبل أن يتم التعرض لمنتجه سواء الأدبى أو السينمائى أو أيا ما كان شكل هذا الإنتاج.

والنوع الثانى من النقد هو ما يمكن تسميته ب &نقد العبودية&، والمقصود به المحبة للمنقود سواء لشخصه أو لأفكاره، وهو ما يتبعه تكوين رأى نقدى إيجابى مسبق حتى قبل أن يتم التعرض للمنتج الفعلى.

لقد ضاع النقد الموضوعى بين كاره ينفث من حقده كلمات أشبه بطلقات نارية مدمرة، وبين محب وقع في غرام سيده فأصبح كل ما يقوله هو الصواب المطلق وله كامل الإذعان والطاعة، إن تفاقم تلك الظاهرة كما هي حاليًا سيكون لها مردودها السلبى على النقد والفن والمتذوق، وسيسبب غياب المصداقية خللًا كبيرًا في المنظومة الفكرية للعقل الجمعى.

وهنا أود أن أعبر أننى من المثمنين لدور إبراهيم عيسى الصحفى وخصوصًا جريدة الدستور القديمة التي كانت فتحًا صحفيًا كبيرًا في ذلك التوقيت، كما أننى أتوافق مع جزء ليس بالقليل مع أفكار الرجل ومواقفه الوطنية حتى لو شكك بها البعض، لكن موقفى من فيلمه صاحب المقام لن يصدر أبدًا عن كراهية أو عبودية، بل هو موقف فكرى من صاحب المقال!

إن الذى سيبقى في العقل الجمعى لمشاهدى فيلم صاحب المقام هو أن التقرب للأولياء وزيارة أضرحتهم هو السبيل الوحيد للنجاة، النجاة على المستوى الشخصى العملى أو على المستوى الروحى الدينى، فهل هذا الفكر حقًا هو ما يتبناه عيسى ويتمناه لمحيطه وأمته؟

لقد تبنى عيسى منهج الخرافات والأساطير والتنجيم والطلسمات لكى يصل لفكرته بأن الاندماج المادى في الحياة لن ينتج سوى الكوارث، ولن تكون لنا حياة إلا بمزج الروحانيات بالمادة، والفكرة ذاتها قد يكون لها وجاهتها، لكن ألا توجد الروحانيات سوى في التقرب لأضرحة الأولياء واستبدال الخرافات محل العقل؟ ألا يجد عيسى في السينما والأدب والشعر والموسيقى والباليه والأوبرا والفنون التشكيلية أي روحانيات يمكن اللجوء إليها لإراحة القلب المتعب والجسد المنهك جراء الانشغال بماديات الحياة المرهقة؟

إن عيسى يعيدنا أكثر من ألف عام للوراء، فبينما يحارب التيار التنويرى ( والذى كنت أعتقد أن عيسى ينتمى إليه) تلك الخرافات والخزعبلات ويلاقى الأهوال من قتل وتكفير ومنع من قبل التيار الدينى المتشدد في حرب ضروس حول إثبات الفاعلية العقلية والحرية الإنسانية أو نفيها، ويأتي عيسى من أجل ربح تجارى أو مغازلة التيار الصوفى ليرشق سكينه في صدر ظاهرية ابن حزم، وعقلانية ابن رشد، ومقاصدية الشاطبى، وتاريخانية ابن خلدون، ليخرب بفيلمه ويسفه من آراء وفلسفات وأفكار علماء أفاضل ضحوا بالغالى والثمين من أجل تنويرنا وتحسين حياتنا، وبلغة المفكر المغربى الكبير د. محمد عابد الجابرى لينتصر للعرفان على البيان مهملًا ومتناسيًا البرهان، بمعنى أن عيسى في صاحب المقام قام بالانتصار للخرافة في مواجهة العقل متجاهلًا العلم.

إن المعارف التي تصلنا جميعًا إما أن تنشأ من تجربة حسية تجريبية، وإما أن تصدر من داخل العقل والفكر، ذلك هو الصراع الفلسفى والعلمى الذى يدور حوله العالم المتطور، بينما الصوفية تفترض شيئًا ثالثًا للوصول إلى المعرفة وهو الكشف والعرفان والعلم اللدنى، ولا يؤمنون بغير هذا الطريق في اكتشافهم لحقائق الكون والحياة، وهى فلسفة قد يرى فيها البعض تعويضًا روحيًا عن معاناة الحياة، لكنها بالتأكيد ليست بديلًا عن الحياة ذاتها، ولا يمكن استبدال العلم والمدنية الحديثة بالصوفية الروحية، كما أن الصوفية ذاتها قد تطورت تطورًا مخلًا، فابتعدت عن خط فلسفتها الرئيسي، فلم يعد الفناء أو الاتحاد أو الحلول في الله هو المقصد والهدف، بل تحولت لمجموعة من الخرافات والطقوس من حلقات ذكر، وزيارة أضرحة، والتوسل والتبرك والشفاعة بالأولياء من دون الله، وإقامة الموالد وتقديم الهدايا والقرابين لهم، مبتعدة كل البعد عن المغزى الروحى والدلالة الفلسفية للتصوف.

لقد انتصر عيسى للعقل المستقيل، محفزًا الجميع على تغييب عقولهم، والنهاية المنتظرة هي تحول الشعب لمجموعة من المجاذيب يتضرعون ليل نهار للأولياء، مستغنيين عن عقولهم، رافضين للعلم، منتظرين تحقيق أمنياتهم من قبل ضريح لا يسمن ولا يغنى من جوع، فهل هذا ما يتمناه عيسى؟