السبت 20 أبريل 2024 05:58 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الباحث محمد جادالله يكتب : الميتافيزيقا.. المفهوم والدلالة (1 – 2)

الباحث محمد جادالله
الباحث محمد جادالله

الميتافيزيقا.. ما وراء الطبيعة.. يتردد على مسامعنا في الآونة الأخيرة هذه الكلمات، وقد يصيب البعض منا فهمها وقد يخطئ، ولكن الامر ليس بهذه الصعوبة. لدينا فرع ثقافي يضم في رحمه المعنى الصحيح لهذه الكلمة ألا وهو "الفلسفة". فالفلسفة قادرة على اعطائنا صورة صحيحة وكاملة نفهم من خلالها هذه الكلمة وما يكمن ورائها من معنى.

كلمة Metaphysics مشتقة من الكلمة اليونانية Meta أي ما بعد أو ما وراء، وكلمة physika أي طبيعة فهي ما بعد الطبيعة أو ما وراء الطبيعة. وقد سُميت بهذا الاسم لأن "أندرونيقوس الرودسي" الذي جمع كتب أرسطو في القرن الأول قبل الميلاد وضع الفلسفة الأولي Prima philosophia في ترتيب هذه الكتب بعد العلم الطبيعي. وقد أستعملها فلاسفة العصر الهلنستي والشراح المتأخرون ليشيروا بها إلى مجموعة نصوص تعود لأرسطو، وتعرف هذه الموضوعات أيضًا باسم الإلهيات أو العلم الإلهي "ثيولوجيا". كما أشتهر اسم “ابعد الطبيعة" بالتفسير الذي نهض به الفيلسوف الأندلسي ابن رشد وبعض فلاسفة العصور الوسطي.

تكتب كلمة "الميتافيزيقا" في العادة بصيغة الجمع Metaphysics والسبب أنها كانت في الأصل تطلق على مجموعة أبحاث (أو مقالات) ارسطية كُتبت باللغة اليونانية في عدة كتب (أي فصول) ثم جُمعت في كتاب واحد فظن الناشر انها مجموعة من الكتب فجعلها بصيغة الجمع.

عزيزي القارئ، إذا نظرنا لكثير من المؤلفات لوجدنا ان هناك بعض الكتب تستخدم مسميات أخري غير الكلمة الشائعة فنجد، أنها سميت بالفلسفة الأولي لأنها تبحث في العلل الأولي والأمور الإلهية والعلة الأولي للوجود. كما أن أرسطو يُعرف الميتافيزيقا بأنها البحث عن العلل والمبادئ الأولي، فإنه يذهب إلى ان الفلسفة الأولي هي البحث في الوجود بما هو موجود. يبدو أن ابن سينا قد أطلق على الميتافيزيقا اسم العلم الكلي، وهو العلم الإلهي الناظر فيما راء الطبيعة، وموضوعه الموجود المطلق. ويعرف الجرجاني العلم الإلهي بأنه" علم باحث عن احوال الموجودات التي تفتقر في وجودها إلى المادة". وأغلب الظن أن تعريفات فلاسفة الإسلام للميتافيزيقا لم تخرج عن التعريفات المعروفة لأرسطو. اما في العصر الحديث اقتصرت الميتافيزيقا على البحث في الوجود والمعرفة وهذا التأسيس مبني على البحث في الموجودات اللامادية، كالموجود بوجه عام والألوهية والكائنات الروحية بوجه خاص. بالإضافة إلى البحث في حقائق الأشياء، وليس في ظواهرها وهذا يعني مجاوزة حدود التجربة، ومحاولة الكشف عن الحقائق المطلقة، كما يقوم هذا التأسيس على المعرفة المطلقة التي يحصل عليها بالحدس المباشر. بالإضافة إلى أن المتأمل في فلسفة كانط يلاحظ جملة المعارف المستمدة من العقل وحده أي المعارف القبلية التي تتألف من المعارف المجردة، وتتجاوز نطاق التجربة والزمان والمكان، تلعب دوراً مهماً في هذا التأسيس. وقد أستعرض كانط في الميتافيزيقا عن المنهج القطعي بالمنهج النقدي. بالإضافة إلى ذلك يمكننا تقسيم الميتافيزيقا إلى ثلاثة مباحث وهم على النحو التالي:

1) مبحث الوجود (الأنطولوجي Anthology): ويسمى الأنطولوجيا او البحث في الوجود، وهو النظر في الموجود بما هو موجود، وتتفرع الانطولوجيا إلى ثلاثة فروع:

أ‌- الكسمولوجيا العقلية وهي النظر في العلم الخارجي.

ب‌- والسيكولوجيا العقلية وهي النظر في النفس.

ت‌- والثيولوجيا العلقية وهي النظر في الله.

2) مبحث المعرفة (إبستمولوجي Epistemology): ويسمى الأبستمولوجيا او البحث في المعرفة، وهو النظر في المعرفة البشرية وفي قيمتها وحدودها.

3) مبحث القيم (Cosmology): ويسمى الأكسيولوجيا (بالإنجليزية: Axiology) وهو العلم الذي يدرس علم القيم المثل العليا والقيم المطلقة، والمراد به البحث في طبيعة القيم وأصنافها ومعاييرها.

أضف إلى ذلك عزيزي القارئ، أن هذه المباحث الثلاث تشمل مشكلات كبري، وهي على النحو التالي:

1) مشكلة النفس.

2) مشكلة الطبيعة.

3) مشكلة الله.

فإذا كانت الفلسفة تهتم بدراسة المبادئ، فإن الميتافيزيقا تهدف إلى دراسة اعم المبادئ وتركز حول تعميق معني الوجود الحقيقي والوصول إلى الحقيقة النهائية Ultimate Reality.

تقوم طبيعة الميتافيزيقا على عدد من الأسئلة التي تتسارع إلى الذهن، ومن هذه الأسئلة: "ما طبيعة العالم ومادته وصورته، وما مكوناته الاولي او قوانينه، وهل الحقيقة واحدة ام متعددة، وهل هناك جوهر واحد أم جواهر متعددة.. إلخ. فهذه الأسئلة تمثل منابع الفلسفة المثالية الميتافيزيقية، التي يجب أن نعتمد عليها في نهاية الامر في نظام متماسك من الفكر، وهذه الأسئلة توضح طبيعة الميتافيزيقا.

بناءً على ما سبق، يتكون النسق الميتافيزيقي من نظريات ومقولات ومقدمات ونتائج وحجج، وهذا كله يسمي محتوي النسق. بعبارة أخري ينطوي أي مذهب فلسفي ميتافيزيقي على تصنيف الموجودات في مقولات تضم كل مقولة نوعاً متميزاً من أنواع الموجودات، كذلك يحدد التصنيف العلاقات بينها وصلتها بمعتقدات الرجل العادي ومعطيات العلم المتطورة، والمقولة هنا تصو أساسي في خبرتنا بالوجود مثل تصورات "الإنسان – الحياة – الغائية – الحرية – النفس – الصفة – الصدفة – العلة – الضرورة".

فبهذه الكيفية يتشكل البناء الفلسفي وهو ما نطلق عليه المذهب الفلسفي، وعندما نصل إلى هذا البناء نكون على وعي تام بقدرة العقل وقوته وتطلعاته وتغلغله في الوجود.

فتلك إذاً هي الميتافيزيقا وذلك هو وجه الحاجة إليها. يقول ميرسون – فيلسوف فرنسي – : "يمارس الميتافيزيقا كما يماس التنفس".

ويمكننا أن نحصر أهم الاعتراضات التي وجهت إلى الميتافيزيقا في ثلاثة هي على النحو التالي: -

1) إن هذا العلم بحكم طبيعته نفسها مستحيل قيامه.

2) إذا أمكن أن تقوم له قائمة فهو عديم الجدو ولا قيمة له. طالما ان بقية العلوم بالإضافة إلى خبرتنا العلمية تعطينا كل الحقائق التي نطلبها.

3) إن هذا العلم علي أي حال لا يتقدم، وإن كل ما يمكن أن يقال عن مشكلاته، قاله الفلاسفة منذ زمن طويل.

أضف إلى ذلك عزيزي القارئ، ما صرح به وليم جيمس – فيلسوف وعالم نفس أمريكي – قائلاً: "الميتافيزيقي يشبه الأعمى الذي يبحث في حجرة مظلمة عن قطعة سوداء لا وجود لها".

كما أن الميتافيزيقا لا تستطيع إن أرادت ولا تريد إذا استطاعت ان تهرب من مهمة تقدير نتائج النظريات العلمية في عصرها. وما تأتي به هذه النظريات من أفكار نهائية عن طبيعة العالم ككل، وكل تقدم أساسي في العالم يدعونا إلى إعادة البحث، وإعادة النظر في المشكلات الميتافيزيقية الجديدة على ضوء المكتشفات الجديد.

وخير ما نختم به حديثنا هو وصف هيجل للميتافيزيقا، قائلاً: "فثقافة الشعوب التي تخلو من الميتافيزيقا هي أشبه ما تكون بالمعبد الفخم الضخم الذي زينت جميع جوانبه لكنه خلا من "قدس الأقداس".

كما اننا نجد أن الميتافيزيقا ليست بديانة، بل هي فكر فلسفي وتأملي، وباحث عقلي فضولي لمعرفة "المعرفة الحقيقية" عن ماهية وجوهر الأشياء، كما ان الميتافيزيقا في موضوعاتها ومشكلاتها لم تقف جامدة طوال تاريخها، بل كانت تتغير، وتظهر مشكلات جديدة وفقا لكل عصر. والسؤال الآن، هل يمكننا ان نطبق ما قرأناه في هذا المقال عن الميتافيزيقا على نظريات الفلاسفة التي نقرأها أم لا؟ إجابة هذا السؤال ستكون موضوع مقالنا القادم.