الأحد 20 يوليو 2025 04:35 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

مدحت الشيخ يكتب : انحدار اخلاقى وثقافى

الكاتب الكبير مدحت الشيخ
الكاتب الكبير مدحت الشيخ

لم يعد من المقبول أن نواصل دفن رؤوسنا في رمال التجميل الزائف، بينما الواقع يصرخ بانحدار أخلاقي وثقافي لا تخطئه عين. لم يعد تراجع الذوق العام مسألة فردية أو سلوكًا عارضًا، بل أصبح حالة مجتمعية تُسوَّق تحت مسميات براقة مثل: حرية شخصية، انفتاح، مواكبة العصر، بينما هي في الحقيقة انحدار منظم بوجه عصري.

في الماضي، كنا نُربَّى على مقولات من قبيل: "العين مليانة، واللسان مهذّب، والمجالس مدارس". أما اليوم، فقد استبدلنا الحكمة بالإيفيه، والوقار بالصوت العالي، والأدب بفن الردح الحديث.

صرنا نُقاس بما نرتدي لا بما نعتقد، وبعدد المتابعين لا بوزن الكلام. صار الجهل لا يُخجل، والفجاجة لا تُحرَج، بل يُحتفى بهما كمؤهلات اجتماعية، وكأننا نعيش في مزاد يومي للتفاهة.

بل إن من يحاول الدفاع عن القيم، أو التمسك بالأخلاق، يُصنَّف فورًا على أنه "كلاسيكي"، "قديم"، "راكب دلّو في زمن التيربو".

ولأننا أمة عريقة، كان يُفترض أن نمارس الحداثة بوعي، لا أن نكون عالة على كل ما هو جديد. الحداثة ليست تغيير اللباس أو تحديث النغمة، بل ارتقاء في الذوق، وتوسيع في الأفق، وتحسين في الفكر.
لكن ما نعيشه اليوم ليس حداثة، بل نسخة هزيلة منها، أقرب للقباحة منها إلى التطور.

نموذج الحداثة في مجتمعنا أصبح أقرب لشخص يرتدي أغلى الماركات، يتحدث بخليط من اللغات واللهجات، لكنه لا يعرف كيف يُلقي السلام بشكل صحيح. يتشدق بالمصطلحات العصرية، بينما يعجز عن ممارسة أبسط قواعد الاحترام.

المشكلة أننا لم نعد نفرّق بين الحداثة والانحلال، بين الحرية والتسيب، بين التطور والتفاهة. أصبح كل صوت عاقل مُتهمًا بالتخلف، وكل منطق رصين يُقابَل بالاستظراف، وكأننا نحاكم الرصانة بقانون الميمز.

بل إن "المحتوى" نفسه صار مصطلحًا مضحكًا، حين يُستخدم لتبرير كل مشهد فارغ أو فيديو مبتذل، وكأننا في سباق عالمي على إنتاج اللاشيء.

فأين ذهب احترام الكبير؟ أين اختفى الحياء في الكلام؟
ولماذا لم نعد نعرف كيف نختلف بأدب، أو نتحدث بوقار؟
هل سقطت هذه القيم بفعل الزمن؟ أم أننا أسقطناها عمدًا تحت شعار "الدنيا اتغيرت"؟

الغريب أن الجميع يتساءل: لماذا تراجعت الثقافة؟ أين ذهب الفن الراقي؟ لماذا يهرب الأدب؟ والجواب في غاية البساطة: لأننا لم نعد نُقدّر أي شيء راقٍ، وصرنا نُصفق للسخافة حتى أصبحت هي القاعدة.

نحتاج اليوم إلى وقفة.. لا لاستعادة الماضي، بل لإنقاذ ما تبقى من الذوق. نحتاج أن نعيد تعريف الحداثة، لا على أنها مجرد صخب فارغ، بل كمسار يحترم الجذور ويستشرف المستقبل.

فالحداثة الحقيقية لا تتصادم مع القيم، بل تنبع منها.
ولا تلغي الموروث، بل تعيد قراءته.
ولا تستبدل الجمال بالضجيج، بل تهذّب الذوق وتسمو بالوعي.

فإن كنا نطمح لتقدم حقيقي، فلنبدأ أولًا من إعادة الاعتبار للمعنى، وإحياء الحياء، وتنقية هذا الكم الهائل من الضجيج.

أما أن نظل نخلط بين الحداثة والقباحة، فسنستفيق ذات يوم على أجيال لا تعرف من نحن.. ولا تعرف من هي أصلًا.