شحاتة زكريا يكتب : السياسة في زمن الخوارزميات.. هل تُختطف الديمقراطية رقمياً؟


لم يكن أشد المتشائمين يتوقع أن تتحول الخوارزميات تلك المعادلات الصامتة التي يكتبها المبرمجون في غرف مغلقة إلى قوة قادرة على هزيمة أعرق النظم السياسية، وأن تصبح هي اللاعب الخفي في تحديد مصائر الشعوب. كانت الديمقراطية دائما مرادفة للصندوق الانتخابي والقرار الحر للناخب فإذا بنا نكتشف أننا في زمن آخر زمن تُدار فيه العقول قبل أن تُدار الحملات وتُهندس فيه القناعات قبل أن تُحسم النتائج. لقد صارت السياسة لعبة رقمية بامتياز وأصبح الخطر الحقيقي أن تختطف الديمقراطية دون إطلاق رصاصة واحدة بل بمجرد ضغطة زر.
من يظن أن هذه مبالغات عليه أن يتأمل ما جرى في الولايات المتحدة وأوروبا من فضائح مدوية حول استغلال البيانات الشخصية وتوجيه الناخبين عبر رسائل مصممة خصيصا لكل فرد بحيث يتلقى كل مواطن مادة دعائية لا يعلم عنها جاره شيئا. إن فكرة "الخطاب العام" الذي يُسمع على الملأ تراجعت أمام سطوة "الخطاب الخاص" الذي تصنعه الخوارزميات في الظل. هنا يتحول الناخب من صاحب قرار إلى مجرد "مستهلك سياسي"، لا يختار من تعددية حقيقية بل من قائمة مختزلة رسمتها له الشاشات التي لا يملك سوى تصفحها.
والأخطر أن هذه المعادلات لا تكتفي بتوجيه السلوك الانتخابي بل تعيد تشكيل وعينا اليومي. فنحن نفتح هواتفنا كل صباح نظن أننا نطالع ما يحدث في العالم ، بينما في الحقيقة نقرأ ما قررت الخوارزميات أن نقرأه نرى ما سمحت لنا أن نراه ونقتنع بما صممت أن نقتنع به. إن حرية الاختيار في هذه اللحظة ليست سوى وهم أنيق يُخفي خلفه واقعا مرعبا من التلاعب والإقصاء والانتقائية.
لقد أصبحت السياسة مختزلة في "بيانات ضخمة"، يحللها خبراء ويبيعونها للحملات الانتخابية والحكومات ، فتحولت المعلومة إلى سلاح ، والخوارزمية إلى جندي مجهول يدير معركة لا يسمع لها الناس صوتا ولا يرون لها جبهات. إننا أمام شكل جديد من الحرب الباردة ، حرب بلا جدران ولا ستائر حديدية ، ساحتها ليست الحدود الجغرافية بل الشاشات الصغيرة التي نحملها في جيوبنا وأسلحتها ليست الصواريخ بل الإشعارات والرسائل القصيرة.
وتزداد خطورة المشهد حين يلتقي رأس المال الضخم مع نفوذ الشركات التقنية العملاقة. هنا لا يصبح الرأي العام مجرد نتيجة طبيعية للتفاعلات المجتمعية بل سلعة تُباع لمن يدفع أكثر. فإذا أرادت حكومة ما أو قوة اقتصادية ما أن تدفع بموضوع إلى صدارة الاهتمام العالمي ، فإنها لا تحتاج سوى إلى التحكم في الخوارزميات التي تحدد ما يظهر وما يُخفى. وفي عالم يحكمه منطق الربح ، فإن العدالة والشفافية والقيم الإنسانية تُزاح جانبا أمام حسابات السوق.
ومع ذلك يبقى السؤال: هل نحن بلا حول ولا قوة؟ الحقيقة أن الخط الدفاعي الأخير لا يزال قائما وهو وعي المواطن. لا خوارزمية في العالم قادرة على ترويض عقل متنبه يقرأ بوعي ويميز بين الحقيقة والزيف ويدرك أن ما يراه على الشاشة ليس بالضرورة صورة الواقع كاملة. وهنا يأتي دور التربية الإعلامية والتعليم والثقافة النقدية ، فبدونها تتحول الديمقراطية إلى قشرة خاوية يُدار الناس من ورائها كما تُدار الدمى بخيوط خفية.
ولعل البعد الأخلاقي والديني في هذه القضية لا يقل أهمية عن بعدها السياسي. فالقرآن الكريم وصف الكلمة بأنها مسؤولية عظيمة ، وشبَّهها بالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. وإذا كانت الكلمة بهذه القداسة فكيف نسمح لأن تُدار وتُسخَّر عبر خوارزميات لا تعرف الحق من الباطل ولا الخير من الشر؟! إن الخطر الحقيقي ليس في التقنية ذاتها بل في أن تُترك بلا قيم ، بلا رقيب وبلا ضابط أخلاقي يجعلها أداة لخدمة الإنسان لا قيدا يُكبّل حريته.
قد يقول قائل إن الحل في التشريعات والقوانين وهذا صحيح جزئيا لكن التجربة تثبت أن سرعة تطور التكنولوجيا تتجاوز قدرة المشرعين على ضبطها. لذلك فإن حماية الديمقراطية الرقمية لن تأتي من القانون وحده ، بل من بناء ثقافة مقاومة للتلاعب تجعل الإنسان فوق الآلة وتجعل السياسة تظل في النهاية انعكاسا لإرادة الشعوب لا لإرادة الخوارزميات.
إن أخطر ما نواجهه اليوم ليس سقوط الديمقراطية بالقوة، بل أن تختطف من داخلها أن تتحول من أداة للحرية إلى لعبة حسابية تُدار بالرموز والصيغ الرقمية. فإذا لم نتنبه لهذا التحدي فقد نصحو يوما لنكتشف أن شعوبا بأكملها لم تعد تختار قادتها بل اختارتها خوارزميات كتبت في مكان ما على خوادم باردة لا تعرف الإنسانية ولا تفقه معنى الحرية. وهنا لن يكون السؤال من يحكم؟ بل من يكتب الخوارزمية التي تقرر ما نعرفه وما نؤمن به وما نصوّت له.