الثلاثاء 14 أكتوبر 2025 06:42 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

شحاته زكريا يكتب : من غرفة التحرير إلى غرفة العمليات.. الإعلام سلاح دولة لا لعبة نجومية

الكاتب الكبير شحاتة زكريا
الكاتب الكبير شحاتة زكريا

لم يعد الإعلام ترفا أو مجرد وسيلة ترفيه كما كان يُظن في العقود الماضية بل أصبح اليوم أحد أخطر أدوات إدارة الدول وتشكيل الوعي وصناعة القوة الناعمة. الإعلام الحديث يشبه غرفة العمليات التي تتابع نبض الشارع وتقرأ اتجاهات الرأي العام لحظة بلحظة وتتحرك وفق استراتيجية دقيقة تشبه خطط الجيوش في ساحات الحرب. الفارق فقط أن الميدان هنا هو العقول والذخيرة هي الكلمة والهدف هو بناء الوعي وصون الأمن القومي في زمن تتقاطع فيه الحقيقة مع الوهم وتتسلل الشائعات كالفيروسات إلى كل هاتف.

في عالم تتداخل فيه الأخبار مع التوجهات وتتصدر فيه المنصات الرقمية المشهد لم يعد مقبولا أن يُدار الإعلام بعقلية “الشهرة” أو أن يُختزل في أسماء وصور تتصدر الشاشة. فالإعلام الذي يليق بدولة بحجم مصر يجب أن يكون جزءا من ماكينة الدولة في التخطيط والبناء لا مجرد نشاط مهني يُمارس بمعزل عن الأولويات الوطنية. فالكلمة أصبحت تُحدث أثرا يفوق الرصاصة والرسالة قد تُشعل أزمة أو تُطفئها والإعلامى الحق لم يعد من يجيد الصراخ أو يجذب المشاهد بالجدل بل من يمتلك الوعي والمسؤولية ويعرف متى يتكلم ومتى يصمت.

الإعلام ليس مساحة للنجومية بل مسؤولية وطنية تحتاج إلى إعداد يشبه إعداد القادة العسكريين. فالمذيع الذي يظهر على الشاشة ليس مجرد ناقل خبر بل هو حامل راية الدولة وصوتها أمام الداخل والخارج. وإذا كانت الجيوش تُعد جنودها بصرامة وتدريب طويل ، فإن إعداد الإعلامي لا يقل أهمية لأنه يقف على الخط الأمامي في معركة الوعي وهو من يشكل وجدان الملايين ويترجم مواقف الدولة وسياساتها إلى لغة بسيطة تصل لكل بيت.

اليوم كل دولة ناجحة تنظر إلى إعلامها باعتباره الذراع الاستراتيجية الرابعة بعد السياسة والاقتصاد والأمن. من واشنطن إلى موسكو ومن بكين إلى باريس الإعلام هو رأس الحربة في معركة النفوذ. لذلك فإن الدول الكبرى لا تترك إعلامها للفوضى أو المزاج الفردي ، بل تديره بعقل الدولة لا بعقل النجم. ومن هنا تبرز أهمية أن نعيد النظر في مفهوم “الإعلام الوطني” ليكون مشروعا متكاملا له أهداف واضحة واستراتيجية بعيدة المدى تُدار باحترافية ووعي بما يجرى حولنا.

نحن في زمن تتراجع فيه القيم التقليدية أمام سطوة الصورة واللايك والمشاهدات. هنا يصبح التحدي الأكبر هو أن نحافظ على قيمة الحقيقة وسط زحام الضجيج وأن نعيد الثقة بين المواطن وشاشته بين الجمهور وصوته الإعلامي. فالمواطن البسيط لا يريد إعلاما يصرخ أو يتباهى ، بل إعلاما يفسّر له ما يحدث ، يطمئنه دون أن يُضلله ويمنحه الأمل دون أن يبيع له الوهم.

من هنا تأتي الحاجة إلى إعلام يُدرك أن المعركة ليست في “نسب المشاهدة” بل في “نسب الوعي”. فالأرقام قد تصنع شهرة لكنها لا تصنع دولة. والإعلام الذي يعيش على الإثارة يفقد تأثيره بمجرد انتهاء الحلقة ، أما الإعلام الذي يعيش على المصداقية فيبقى أثره في الوعي لأجيال. لهذا.يجب أن نُعيد ترتيب أولوياتنا داخل المؤسسات الإعلامية: من منطق “من يُشاهدنا؟” إلى منطق “ماذا نُضيف لعقل من يُشاهدنا؟”.

الإعلام اليوم أمام اختبار حقيقي: إما أن يكون ذراعا للدولة في البناء أو عبئا يجرها إلى الخلف. لا وسط في هذه المعادلة. الدولة المصرية تخوض معارك معقدة على جبهات كثيرة — اقتصاد وتنمية ووعي وثقافة — وتحتاج إلى إعلام يفهم لغتها لا يبتعد عنها إعلام يبنى ولا يهدم يُقنع ولا يُملي يشرح للناس لا يُلقنهم. إعلام يكون جزءا من مشروع الجمهورية الجديدة لا مجرد متفرج أو ناقد من بعيد.

وهنا يبرز دور القيادة الإعلامية في صياغة “رؤية إعلام الدولة”، لا إعلام الحكومة ولا إعلام الأشخاص. فالإعلام الوطني الحقيقي لا يبرر الأخطاء ، بل يُصححها بوعي وهدوء. لا يصفق لكل شيء بل يُنبه لما يُمكن أن يُحسن ويُطور. ليس خصمًا ولا تابعا بل شريكا في الوعي والتنمية.

ومن داخل غرفة التحرير إلى شاشة العرض يجب أن تمتد خيوط الوعي والانضباط كما تمتد في غرفة العمليات.حيث لا مجال للارتجال أو المزاج. كل خبر يُراجع بدقة وكل فقرة تُقاس بتأثيرها وكل كلمة تُدرك قيمتها في معركة الوعي. فالإعلام اليوم لم يعد مجرد وسيلة اتصال بل هو سلاح بامتياز سلاح ناعم لكنه حاد يرفع الأمم أو يُسقطها.

علينا أن نُدرك أن المشهد الإعلامي ليس ساحة للنجومية الفردية بل ميدانٌ للمسؤولية الجماعية. كل صحفي أو مذيع أو معدّ هو جندي في جيش الوعي الوطني وكل شاشة هي جبهة دفاع عن الدولة. فالمعارك الحديثة لا تخاض فقط في الحدود بل تُخاض في الوعي، في الفكرة، في الصورة التي تصل للعالم عن مصر.

من غرفة التحرير إلى غرفة العمليات المعركة واحدة: معركة وعي وصمود وتماسك. ومصر التي انتصرت في أكتوبر 1973 بسلاح الإرادة والذكاء والخطة قادرة أن تنتصر اليوم في أكتوبر الإعلامي الجديد بسلاح الكلمة والعقل والمسؤولية. فكما حمت البندقية حدود الوطن يجب أن تحمي الكلمة وعيه.

الإعلام ليس لعبة نجومية بل رسالة دولة ومسؤولية وطن وأمانة عقل. ومن يعتلي المنصة ليخاطب الناس.عليه أن يتذكر دائما أنه لا يمثل نفسه بل يمثل مصر.

شحاته زكريا من غرفة التحرير إلى غرفة العمليات.. الإعلام سلاح دولة لا لعبة نجومية الجارديان المصرية