دكتور علاء الحمزاوى يكتب : بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ :


ــ هذا العنوان تعبير قرآني ورد في سبع آيات تحمل أربعة توجيهات إلهية للمسلمين، وكلها تؤكد أن الإحسان خُلُق عظيم يحبه الله، وهو غاية ما يسعى إليه المؤمن قــولا وعملا، وهذه هي عظمة الإسلام الدين المجتمعي، فيجب على المسلم أن يكون محسنا في كل شيء، وأن يكون أكثر إحسانا في الاستجابة لهذه التوجيهات الكريمة.
ــ التوجيه الأول: حفظ مال اليتيم؛ قال ربنا: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّه}، والخطاب هنا للوَصيِّ على المال، وجاء التوجيه مرتين في القرآن وبأسلوب قصر للتأكيد على أن مال اليتيم أمانة لدى الوصي يجب حفظها وأداؤها لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا}، فلا يجوز للوصي أن يتصرَّف في مال اليتيم إلا بما ينفعه وينمِّيه ويزيده، وهذا هو المراد بالأحسن في الآيـة.
ــ التوجيه الثاني: مخاطبة الآخرين بالحسنى؛ قال ربنا للنبي: {قُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، لكن من الآخرون؟ حُذِف المتعلِّق للعموم، والمراد مطلق الناس؛ فلذلك أثر طيب في المخاطب؛ لذا جعل الإسلام حُسْن القول من تمام الإيمان؛ ففي الحديث «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيصْمُتْ»؛ فالخير حُسن القول أي الكلام الطيب اللين الرقيق الذي ليس فيه قسوة ولا غلظة ولا جفوة ولا عنف، وهو من العبادات المجتمعية المقدَّمة على العبادات الشعائرية وفقا لقول الله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}؛ ذلك لأن حسن القول يترك أثـرا طيبا في نفوس الناس، وحينما يتعلق الخطاب بدعوة الآخـر إلى الحـق والخير يجب أن يتحلى المسلم بأحسن القول تنفيذا لأمر الله: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ومثال لذلك ما حدث من النبي مع الشاب الذي استأذنه في الزنا، ففي الحديث «أنَّ غلامًا شابًّا أتى النبيَّ فقال: يا نبيَّ اللهِ أتأذنُ لي في الزنا؟ فصاح الناسُ به، فقال النبيُّ: قَرِّبوهُ ادْنُ فدنا حتى جلس بين يديْهِ، فقال النبيُّ: أتحبُّه لأُمِّكَ؟ فقال: لا جعلني اللهُ فداك، فقال النبي: كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه لِأمَّهاتِهم، أتحبُّه لابنتِك؟ قال: لا جعلني اللهُ فداك، فقال النبي: كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه لبناتِهم، أتحبُّه لأختِك؟ وذكر العمَّةَ والخالةَ وهو يقولُ في كلِّ واحدٍ: لا جعلني اللهُ فداك، والنبي يقولُ: كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه، فوضع رسولُ اللهِ يدَه على صدرِه، وقال: اللهمَّ طهِّرْ قلبَه واغفر ذنبَه وحصِّنْ فَرْجَه، فلم يكن شيءٌ أبغضَ إليه منه»، أي خرج الشاب من عند النبي والزنا أبغض شيء إلى قلبه لقناعته بكلام النبي ودعائه له، وهذا هو تأثير أحسن القول في الناس.
ــ التوجيه الثالث: حسن الحوار مع اليهود والنصارى؛ قال ربنا: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، أمر مباشر مؤكد بالقصر أن نحاور أهل الكتاب بأحسن القول لإظهار حقيقة الإسلام لهم، وقد نهى القرآن عن الإساءة للمخالفين ولو كانوا وثنيين؛ فقال: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، وهذا معناه أن الإساءة إلى الآخر يعود مردودها على المسيء، وحرص الإسلام على وضْع قاعدة مشتركة مع الآخر ينطلق منها الحوار حتى يبلغ غايته، هي قول الله: {تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}، ومن الحوار المثمر أن "يهوديا كان يجر كلبًا فمـرّ بإبراهيم بن أدهم فأراد أن يستفزه، فقال: يا إبراهيم أَلِحْيتُك أطهرُ من ذَنَب هذا الكلب أم ذَنَبُه أطهرُ منها؟ فقال إبراهيم: إن كانت لِحْيتي في الجنة فهي أطهر من ذَنَب كلبك، وإن كانت في النار فذَنَب كلبك أطهر منها، فقال اليهودي: إن دِيــنا يأمر أتباعه بحسن القول مع أعدائه أحـق أن يُتَّبع! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"، وهذا معناه أن المؤمن حينما يُخاطَب بما يكره يجيب بما يحب إعمالا لقول الله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}.
ــ التوجيه الرابع: مقابلة الإساءة بالإحسان؛ قال ربنا: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وهذا التوجيه ورد مرتين في القرآن للتأكيد على ضرورة أن يتصف المسلم بالإحسان في العلاقات والمعاملات الإنسانية، فيتحلَّى بالصبر والحِلْم والكرم واللين والرحمة والهدوء وسلامة الصدر ورجاحة العقل .. والإنسان مجبول على حب مَــن يحسن إليه، بل إن الإحسان يحوّل البغض إلى مودة صافية؛ قال الله: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أي صديق قريب ودود.
ــ والعمل بهذه التوجيهات الكريمة يؤدي إلى التعايش السلمي الذي يحقق الوئام والسلام والاستقرار المجتمعي؛ لذلك بشَّر القرآن أصحاب الإحسان بمعية الله وقبول أقوالهم وأعمالهم؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}، و{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، وجعل جزاءهم الجنة؛ قال: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}، وقال النبي: «إنَّ في الجنةِ غُــرفًـا يُرَى ظاهرُها من باطنِها وباطنُها من ظاهرِها، قيل: لِمَن هي يا رسولَ اللهِ؟ قال: لِمَن ألانَ الكلامَ وأطعمَ الطعامَ وباتَ للهِ قائمًا والناسُ نيامٌ»، فأول صفة لهم هي لين الكلام، وهو أحسن القول.