خالد درة يكتب من باريس : بالعقل أقول…( أنا أفكر .. إذاً .. أنا موجود ..! )
منذ ظهر الذكاء الاصطناعي و سيطرته على كافة المجالات العلمية و الاجتماعية و الثقافية و غيرها من العلوم الإنسانية الحديثة و الإستعانة بشكل كبير بما يعرف بال ( شات جى بى تى ) فى كل شئ حتى صناعة النصوص الفكرية و الأدبية و التى أصبحت اليوم ثورة غير مسبوقة ، إذ لم يعد الإنسان وحده القادر على إنتاج الكلمات و الحكايات حتى أن مقولة أنا أفكر إذاً أنا موجود أصبحت خارج نطاق فكر و إبداع العمل الإنساني لإعتماده كليةً أو بشكلٍ ما على الذكاء الاصطناعي ..
و بشكل عام قد أصبحت أنظمة الذكاء الاصطناعي تلعب دور الكاتب ، و قادرة على تقديم نصوص دقيقة التنظيم ، سريعة الإنتاج ، تستند إلى خوارزميات معقدة و حسابات احتمالية دقيقة .. لكن هذا التحول يثير تحديًا معرفيًا عميقًا ، لأن الكتابة ليست مجرد ترتيب كلمات ، بل هي انعكاس لتجربة إنسانية ، لآلام و أفراح ، لشغف أو لتفكير عميق .. فالنصوص المولَّدة آليًا تفتقر إلى هذا البعد الإنساني ، و تكاد تختزل الأدب في سرد آلي منظم لكنه بارد ، خال من الروح و الإحساس ..
و مع تسارع التطورات في الذكاء الاصطناعي ، يزداد السؤال إلحاحًا حول مصير الكاتب البشري و دوره الحقيقي .. فالأنظمة الحديثة قادرة على محاكاة أساليب متنوعة و إنتاج مقالات و قصص و قصائد تبدو و كأنها من صنع قلم بشري ، مستندة إلى كميات هائلة من البيانات و أنماط اللغة المستخلصة منها .. و مع أن هذه النصوص تأتي متماسكة نحويًا و منطقيًا ، فإنها تظل خالية من الوعي الذاتي و التجربة الحياتية التي تمنح الكلمات عمقها ، و يبقى السؤال قائمًا ؛ هل يمكن للآلة أن تحل محل من عاش و عانى و تفاعل مع الحياة بكل أبعادها؟..
طرح الفيلسوف رولان بارت في مقاله الشهير La mort de l’auteur (1967) ( وفاة المؤلف ) فكرة تحرير النص من سلطة الكاتب ومنح القارئ حرية التأويل .. هذا التصور يفتح أمامنا مجالًا للمقارنة مع النصوص المُولّدة بالذكاء الاصطناعي : فالنص البشري يحمل أثر التجربة و الوعي ، بينما النص الآلي يقوم على حسابات احتمالية ، يعيد تركيب المعطيات ليبدو منسجمًا ، لكنه يفتقر إلى البعد الذاتي الذي يشحن اللغة بروحها ..
و بالرغم من إتقان الذكاء الاصطناعي في تركيب الجمل و التلاعب بالألفاظ ، يبقى النص الناتج خاليًا من الوعي الذي يجعل الكاتب يختار تعبيرًا محددًا ليعكس تجربة أو شعورًا أو رؤية شخصية .. و غياب هذا البعد يقود إلى إنتاج سرد بلا أصالة أو مصداقية عاطفية بلا إحساس ، إذ إن الأصالة فعل إنساني لا يولد إلا بوعي و خبرة و معاناة حقيقية ..
هذا يقودنا إلى سؤال المؤلفية : من هو المؤلف في عصر الذكاء الاصطناعي؟ هل هو المستخدم الذي يوجه الأداة ، أم المطور الذي صممها ، أم النص ذاته؟ هذه الإشكالية ظهرت بوضوح في تجربة الكاتب الكندي ستيفن مارشي ، الذي كتب مقالة بعنوان "Can a Robot Write a Novel" في صحيفة The Guardian (2017) ( هل يستطيع الإنسان الآلى أن يكتب قصة) ، ثم خاض تجربة أعمق في روايته Death of an Author (2023) ، حيث استعان بالذكاء الاصطناعي لتوليد مادة نصية .. و مع ذلك ، خلص إلى أن دور الإنسان يبقى جوهريًا ، لأنه هو من يمنح النص صورته النهائية و بصمته الإنسانية ..
و منح الآلة صفة المؤلف يهدد جوهر الإبداع و يقوض أسس الملكية الفكرية ، إذ تقوم القوانين الحالية على مبدأ وجود مبدع بشري .. فقد رفض مكتب حقوق الطبع و النشر الأميركي تسجيل الأعمال التي أُنتجت بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي دون مساهمة بشرية كافية ، كما حصل في قرار المكتب بشأن العمل الفني "Zarya of the Dawn" (2023) ، حيث تم رفض حماية الصور المولدة آليًا و منح حماية جزئية فقط للمحتوى البشري المصاحب .. و مع ذلك ، ما يزال الجدل قائمًا حول مدى الاعتراف بمكانة الذكاء الاصطناعي في الإنتاج الأدبي و المعرفي ، و ما إذا كان يمكن للآلة أن تُعتبر مؤلفًا بالمعنى القانوني ، و هو موضوع قيد النقاش في المحاكم و الأوساط الأكاديمية ..
و البعد الأخلاقي حاضر بقوة أيضًا ، فالذكاء الاصطناعي قد يولّد هلوسات معرفية أو يعيد إنتاج تحيّزات موجودة في بياناته التدريبية ، بما يعزز أنماطًا ثقافية أو اجتماعية أو حتى عنصرية .. و هنا تقع المسؤولية على المستخدم و المطور و الجهات التنظيمية لضمان جودة المحتوى و دقته .. فمنظمة COPE للأخلاقيات العلمية أوضحت أن الذكاء الاصطناعي لا يعد مؤلفًا بل أداة ، و أن على الباحثين الإفصاح عن استخدامه ..
و التعاون بين الإنسان و الآلة ممكن إذا توفرت الشفافية ، و شارك الإنسان بفعالية في التحرير و المراجعة ، و اعتُبر الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة أو مَرجع فقط ، مع وضع قوانين أخلاقية تحدد مسؤوليات كل طرف بوضوح ، لتظل النصوص أصيلة ، و تحمي القارئ من التضليل ، و تعزز احترام القيم الثقافية و الأدبية ..
و يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مساعدًا قويًا في مهام مثل إنشاء مسودات أولية ، تحسين الصياغة و الأسلوب ، و البحث عن المعلومات ، و التدقيق اللغوي و النحوي ، و مع هذه الإمكانات يظل الدور البشري حاسمًا ، فالكاتب هو الذي يحدد الرؤية العامة للنص ، و يضيف شخصيته الفريدة عليه ، و يختار الكلمات التي تحمل أعمق المعاني ، و يمنح النص اللمسة الإنسانية التي تميزه عن مجرد ترتيب آلي للجمل و الكلمات ..
فالحكاية ليست مجرد تسلسل أحداث ، فالأدب الحقيقي يلامس الروح ، و يحرك المشاعر ، و يثير التفكير ، و يعكس تعقيدات الوجود و صراعاتنا الداخلية و الخارجية ، و آمالنا و أحلامنا ، و هو الحوار بين الأرواح الذي يجعل الكاتب ينقل جزءًا من ذاته للقارئ ، و يشاركه آرائه و تجربته ، و يمنح النص قوته و تأثيره الدائم ، و يجعلنا نعود إليه مرارًا و تكرارًا ..
فالذكاء الاصطناعي يفتح آفاقًا جديدة ، لكنه يضعنا أمام تحدِ حقيقي في الحفاظ على جوهر الإبداع البشري ، و مستقبل الكتابة مرتبط بالتعاون المدروس بين الإنسان و الآلة ، مع السيطرة الإنسانية الكاملة على الإبداع ، و ضمان أن تظل الحكاية قصة يرويها إنسان لإنسان آخر حتى آخر الزمان .












إصابة مسن نتيجة اصطدام دراجة بخارية به في المقطم
القبض على سائق ميكروباص دهس فتاة وصديقتها
حبس مدير كيان تعليمي وهمي في مدينة نصر 4 أيام على ذمة...
إجراء تحليل مخدرات لـ 60 سائقا خلال حملات موسعة على الطرق السريعة
استقرار أسعار الذهب في بداية تعاملات اليوم الاحد 23-11-2025
أسعار الذهب اليوم الأربعاء فى محلات الصاغة
أسعار الذهب اليوم الأحد 16 نوفمبر 2025
أسعار الذهب في مصر اليوم الجمعة 14 نوفمبر 2025