الخميس 18 أبريل 2024 07:25 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

حوارات

الكاتب الصحفى إسماعيل ابوالهيثم يحاور الدكتور إبراهيم الهدهد رئيس جامعة الازهر السابق

الكاتب الصحفى إسماعيل ابوالهيثم
الكاتب الصحفى إسماعيل ابوالهيثم

حب الوطن فطرة إنسانية وعادة سوية وقيمة شرعية، ويمكن القول بأن حب الأوطان من الإيمان

ذلك أن الإنسان من طبيعته ألا يعيش وحده قال ـ تعالـي : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير) (الحجرات: ١٣ ) ولايمكن أن يوجد شعب إلا على أرض، وهذه كلمات مضيئة من كتاب ربنا وسنة حبيبنا تعزز الانتماء للوطن وتبين مقتضى هذه القيمة.

حول تعزيز الانتماء للوطن ، يسعد الجارديان أن تستضيف الأستاذ الدكتور إبراهيم صلاح الهدهد

، رئيس جامعة الأزهر سابقا ـ عضو مجمع البحوث الإسلامية

، والمستشار العلمي للمنظمة العالمية لخريجي الأزهر ، للحديث عن هذا الموضوع.فضبلة الأستاذ الدكتور.

# ما قيمة الانتماء للوطن ؟

الذي يطالع القرآن الكريم، والسنة المشرفة يتبين له بلا ريب أن حب الأوطان من الإيمان، ونورد ذلك في نقاط:

* ترك الأوطان يعدل قتل النفس : إن الانتماء للوطن قيمة عظيمة، وحسبنا أن الله جعل ترك الأوطان يعدل النفس، وذلك في قوله ـ تعالى ـ (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ) (النساء: ٦٦ )

* الإخراج من الوطن أشد على النفس من قتلها : القرآن الكريم بين في موضعين آخرين أن الإخراج من الوطن أشد إيلاما للنفس من قتلها، حيث فسروا الفتنة بالإخراج من الوطن في الآية الحادية والتسعين بعد المائة من سورة البقرة، (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتي يقاتلوكم فيه ، فإن قاتلوكم فاقتلوهم ، كذلك جزاء الكافرين ) (البقرة ١٩١) : وكذلك في قوله تعالى : وإخراج أهله منه أكبر عند الله في الآية السابعة عشرة بعد المائتين من سورة البقرة : ( يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتي يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والأخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) (البقرة: ٢١٧ )

* حب الوطن فطرة : إن الناس يستمسكون بالحياة ويحرصون عليها أشد الحرص، فكذلك الخروج من الديار والأوطان من أشق شئ على النفس وأصعبه، وخطاب القرآن هو خطاب الفطرة السوية، لذا رأينا الناس جميعا مجبولون على حب الأوطان، وربما تجد بلادا لاتطيق حرارة جوها، ولا العيش فيها ولكنك تجد أهلها يعيشون فيها سعداء لأنهم على أرض وطنهم نشأوا وعلى ترابه تربوا وترعرعوا، وترى أهل الاسكيمو مع البرد القارس يعيشون في وطنهم محبين له،وذلك أن كل إنسان تنشأ من تراب وطنه فآدم الأول خلق من التراب مباشرة، وكل من تناسل منه بعد ذلك خلق من التراب بواسطة، ذاك أن كل إنسان خلق من نطفة، والنطفة يكونها غذاء والغذاء نابت في تراب وطن، يتضح ذلك في الآيتين الكريمتين : (ومن أياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) (الروم: ٢٠ ) (إنا خلقنا الإنسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ) (الإنسان: ٢) لذا فإنّ كلَّ غريب في غير بلده يشتاق لما تخرجه أرض بلده ، ويتمنى على القادم من بلده أن يحمل له بعض ما تنبته أرض بلده، وتراب وطنه، ذاك شئ في أصل الفطرة، والإسلام دين الفطرة كما جاء في قوله تعالى : (فأقم وجهك للدين حنيفا ، فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم: ٣٠ ) فحب الأوطان فطرة كما أن الإسلام فطرة،

قال عمر رضي الله عنه:عَمَّر اللهُ البلدانَ بحُب الأوطان .

وقال ابن الزبير : ليس الناس بشيء من أقسامهم (أي: ما قسمه الله لهم من الأرزاق) أقنع منهم بأوطانهم .

وقيل : من علامة الرشد أن تكون النفس لبلدها تواقة وإلى مسقط رأسها مشتاقة .

وقال أهل الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك.

وقالت الفرس: تربة الصبي تغرس في القلب حرمة كما تغرس الولادة في الكبد رقة.

* ترك الوطن من أجل الدين حال الاستضعاف وعدم التمكن من إقامة الشعائر أعظم أنواع البذل : القرآن الكريم حينما أراد إعلاء شأن المهاجرين في غير موضع، صدّر حديثه عنهم بأنهم قد بذلوا في سبيل دينهم أنفس شئ، وأعزه، إذ تركوا أوطانهم في سبيل دينهم، وفيه ما فيه من مغالبة الفطرة الطبعية، وما جبلت عليه النفوس، قال : ـ تعالى ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ،ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) (الحج: ٤٠ - ٤١ )

* قُدِّم المهاجرون على الأنصار لعظيم مابذلوا من ترك الوطن للاستضعاف وعدم القدرة على إقامة الشعائر:

ومن هنا قدم القرآن المهاجرين على الأنصار حيثما ورد الحديث عنهم في القرآن الكريم، خذ من ذلك قوله ـ : ـ تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله . أولئك هم الصادقين ، والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم مصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (الحشر: ٨ – ٩) وقوله :(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه واعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ) (التوبة: ١٠٠) كما ترى هم أئمة وغيرهم في الفضل تبع، ألا ترى إلى قوله (والذين اتبعوهم بإحسان) وذلك لبذلهم أنفس شئ وأعزه.وقوله : (لقد تاب الله علي النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم (التوبة: ١١٧ ) ولعلك ترى رتبتهم وقعت في الآية بعد رتبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ

والحق ـ سبحانه ـ قدّم الهجرة على بذل المال والنفس، وجعلها أدل العلامات على الإيمان، وذلك ليكشف عن فضل الأوطان ومنزلتها في أكثر من آية، من ذلك قوله ـ تعالى (إن الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين ءامنوا ولم بهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتي يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا علي قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ) (الأنفال: ٧٢) بل جعل الله حب الأوطان علامة الإيمان الحق بكل صراحة ووضوح، قال : ـ تعالى (والذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم ) (الأنفال: ٧٤)

* حب النبي الوطن وتأسي أصحابه به : ذلك أن ترك النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـ مكة وهي دار كفر وقد أوذي فيها هو وصحبه كان لضرورة:

- وفي الحديث الذي أخرجه أبو يعلى الموصلى في مسنده، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:

(لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال: " أمَا والله لأخرج منك، وأني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلىَّ، وأكرمه على الله، ولولا أن أهلك أخرجونى منكِ مَا خرجت").

وفي رواية السيوطى في الدر المنثور : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار التفت إلي مكة، وقال : (أنت أحب بلادِ الله إلى الله ، وأنت أحبُّ بلاد الله إلىُّ، ولو أن المشركين لم يخرجونى لم أخرج منك ، فأعدى الأعداء مَنْ عَدَا على الله في حرمه، أو قتل غير قاتله ، أو قتل بذحُول" (أي: بعداوة). فانزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:(وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي اخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم ) (محمد: ١٣ )

وفي رواية الترمذى في كتاب : المناقب ، باب : في فضل مكة ، قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: (ما أطيبك من بلد ، وأحبّك إلىّ! ولولا أن قومك أخرجونى منكِ ما سكنتُ غيرك).

وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلما تذكر وطنه أو ذكّره أحد بوطنه أصابه الحزن، وارتج منه الفؤاد :

*وقد جاء ذلك الحديث الذي ذكره ابن الأثير في أسدالغابة" والخطابي في غريب قال:(قدم أصَيْلٌ الغفارىُّ قبل أن يُضرب الحجابُ على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل على عائشة رضي الله عنها، فقالت له: يا أصَيْل، كيف عهدت مكة؟ قال: عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها. قالت: أقمْ حتي يأتيك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم يلبث أن دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا أُصَيْل، كيَف عهدت مكة ؟) قال: عهدتُها والله قد أخصب جنابها، وابيضتْ بطحاؤها (أي: أخصبت ناحيتها) وأعذق إذخرها،(أي: صار له أفنان، والإذخر: نبت معروف بالحجاز) وأسلب ثُمامُها، (الثمام : نبت بالحجاز) وأمْشَر سَلْمُها(السلم: نبت بالحجاز أي: أورق واخضر) فقال: حسبك يا أصَيْل لا تُحْزِنَّا" .

وفي رواية ابن حجر في الإصابةأنه قال له: (يا أصَيْل، دع القلوبَ تقر) فالحزن لايجعل القلوب تستقر.

وكان صلى الله عليه وسلم يسمع كلام أصحابه رضوان الله عليهم في الحنين إلى مكة ، فيرق لحالهم، ويقدّر عواطفهم ، ويدعو لهم بأن يحبِّب الله إليهم المدينة كما حبّب إليهم مكة.

قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرتُه، فقال: " اللهمَّ حببْ إلينا المدينة كحبّنا مكةَ أو أشد، وصحّحْها، وبارك لنا في صاعها ومُدِّها، وانقل حمَّاها فاجعلها، بالجُحفة") . قد تبين بما لايدع مجالا للشك أن كره الوطن قسوة وجفاء ومصادمة للشرع والفطرة.

# هناك شبهات حول الانتماء للوطن،

منها أن المسلمين تركوا الأوطان في أول الإسلام وهاجروا !؟

* نعم ترك المسلمين الأوطان أول الإسلام كان لعلة فلما زالت العلة زال المعلول:

كان ترك الوطن (مكة) في أول الإسلام بسبب ما ناله المسلمون الأوائل من الأذى، وعدم التمكن من إقامة الشعائر، وحينما زال الأذى وقوى المسلمين، وفتح الله مكة لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبرنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعدم الهجرة بعد الفتح، وفي فقه الحديث فهم مغلوط يحسن بيان فهمه على الوجه الصحيح:

الحديث رواه الشيخان بسنديهما عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال يوم الفتح: " لاهجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا" (صحيح البخاري) ، فالهجرة في أصل اللغة الترك، ثم غلبت على الخروج من أرض إلى أرض، وقد شاع إطلاقها على هجرتي الحبشة، وهجرة المدينة، أما الهجرة في الشرع فهي ترك ما نهى الله عنه، والهجرة بمعنى ترك الوطن ارتفع حكمها، وبقي بدلها وهو الجهاد والنية، ولقد كانت الهجرة قبل الفتح فرضا على من أسلم بمكة، ذلك ليأمن على دينه، ويسلم من أذى الكفار، وقد أعظم الله شأنها، ونعى على من لم يقم بها في قوله: (إن الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين ءامنوا ولم بهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتي يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا علي قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ) (الأنفال: ٧٢) وظل الأمر على هذا الحال حتى فتحت مكة، فنسخ فرض الهجرة، بل إن أهل العلم بينوا أن لا حرج منذ الفتح إلى قيام الساعة على من أقام في دار الكفر مسلما قادرا على إقامة شعائر دينه، وقد بين الماوردي ـ رحمه الله ـ فضل إقامة المسلم في بلاد الكفر فقال: " إن إقامة هذا أفضل من رحلته، إذ يرجى من وراء إقامته دخول غيره في دين الله، وهو قول حق تؤيده دلائل الشريعة، لكن لمن نوى بإقامته إظهار الحق والدعوة إليه، وكان أهلا لذلك

وقصارى القول: أنه لاتجب عليه الهجرة مالم يفتن" وهو ما قاله ابن حجر في شرح الحديث فقد ذكر: أن هذا فيمن خشي الفتنة على دينه، وهو عين مارواه البخاري في صحيحه في المغازي: عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ وقد سألها عبيد بن عمير الليثي عن الهجرة فقالت: إنما كانت الهجرة قبل فتح مكة والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة، أما اليوم فلا هجرة، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله ـ تعالى ـ وإلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مخافة أن يفتن عليه، أما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، واليوم يعبد ربه حيث يشاء، ولكن جهاد ونية" ولقد عرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المهاجر الحق في الحديث الذي رواه البحاري في صحيحه بسنده قال: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" هذا فهم سلفنا الصالح للحديث، وما أجل قول القاضي عياض: أجمعت الأمة على تحريم ترك المهاجر هجرته ورجوعه إلى وطنه، وفَرْضُ ذلك عليه إنما كان في زمن النبي r لنصرته أوْ ليكون معه أوْ لأن ذلك إنما كان قبل فتح مكة، فلما كان الفتح، وأظهر الله الإسلام على الدين كله، وأذل الكفر، وأعز المسلمين سقط فرض الهجرة فقال النبي r : (لا هجرة بعد الفتح) وقال: "مضت الهجرة لأهلها" أي الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم قبل فتح مكة لمواساة النبي r ومؤازرته، ونصرة دينه، وضبط شريعته.

# ما خطورة الإنحراف بالنص عن مراده الحق ؟

* من يدعي العلم بالدين انحرف بالنص عن مراده، ولم يدرك المعنى اللغوي القاطع الذي جاء في النص الشريف، بل إنهم ذهبوا إلى وجوب الهجرة من دار الشرك، مستدلين بالآيات التي تحث على الهجرة قبل زوال حكمها غفلة عن السياق المقالي والمقامي، ثم استندوا إلى مرويات ضعّفها أهل العلم من مثل قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" وقوله: " لاتنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولاتنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" والحديث الأول رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وهو محمول على ما كان قبل الفتح، أو على من يفتن في دينه، ويظل باقيا، والحديث الثاني رواه أحمد في مسنده، وأبوداود والنسائي، وهو حديث ضعيف، عند أهل الحديث لأن في سنده أبا هند البجلي الذي جهله أهل الحديث.

الجهل بسياقي الحال والمقال من أعظم المزالق في فقه النص

# ما خطورة خروج الآيات عن سياقها المقالي والمقامي ؟

* إن فقه آيات الذكر الحكيم والنصوص النبوية الشريفة بمنأى عن سياقها المقالي والمقامي، وعن ظلال المقاصد الكلية لشريعة الإسلام مزلق عظيم الخطر، وقد نبه الأسلاف إلى ذلك من ذلك ما ذكره الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ في الموافقات : والذي يجب أن يكون على بال من المستمع والمتفهم الالتفات إلى أول الكلام وآخره وآخره وأوله والقضية وما اقتضاه الحال منها، فلايعقل مثلا حمل الكلام على الظاهر في الحديث وترك الأحاديث الأخرى في الباب ، فالذين نظروا إلى الحديث بعيدا عن نور سياقه، قسموا الديار في زماننا إلى دار كفر ودار إسلام، ثم قسموا دار الكفر ثلاثة أقسام (دار حرب ـ دار عهد ـ دار موادعة) ثم سحبوا الحكم على الدار إلى ساكنيها فحكموا بالكفر على من يقيم فيها، وعدوا كل بلاد العالم في زماننا ديار كفر، وهو خلاف ماعليه أهل العلم فابن تيمية نفسه لم يسحب الحكم على ساكني الديار ماداموا متمكنين من إقامة شعائر الدين الظاهرة، لكن هؤلاء غالوا ورتبوا على ذلك الفهم المغلوط وجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهجروا على ذلك أوطانهم، والحال أن المسلمين في كل بقاع الدنيا الآن يقيمون شعائر دينهم بكل حرية، ولايمنعهم من ذلك أحد والمساجد تملأ أوربا وروسيا والعالم كله، وقد تغير وجه الدنيا عما كان عليه، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم نفسه، غير المفهوم لمّا تغير الواقع، حين ألغى مفهوم الهجرة الذي كان محدد المعالم واضح القسمات قبل الفتح، وذكر مفهوما دائما مستمرا إلى أن تقوم الساعة ، حيث بين ـ كما سلف ـ أن الهجرة أن تهجر ما نهى الله عنه، إذا حجر المصطلح على فهم واحد هو عدم فقه صحيح لسنة الله في كونه، ولسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ

# وماهو الحكم بين الهجرة في الزمن الأول وبينها الآن ؟

هناك فرق هائل بين ظروف المسلمين الأوائل في مكة وبين استقرار المجتمعات الآن، فقد غابت تلك الظروف ولايجوز الاستدلال بمثل قوله تعالى: (إن الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين ءامنوا ولم بهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتي يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا علي قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ) (الأنفال: ٧٢)

فالهجرة التي هي بمعنى ترك الوطن، واستيطان غيره بالنسبة لمسلمي مكة الأوائل هي هجرة دفعهم إليها قومهم، واضطروهم إليها ويدل على ذلك عطف الإخراج على المهاجرة في آية آل عمران (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ) (آل عمران: ١٩٥ ) سواء كان الإخراج بصريح القول أم بالإيحاء من جهة سوء المقالة ، ولقد هاجر المسلمون الهجرة الأولى إلى الحبشة لما لاقوه من سوء معاملة المشركين، ثم هاجر رسول الله r هجرته إلى المدينة، والتحق به المسلمون كلهم لما لاقوه من أذى المشركين، ولا يُوجد ما يدل على أن المشركين أخرجوا المسلمين، فالهجرة هنا بمعنى الإلجاء إلى الخروج، ومنه قول ورقة بن نوفــل : يا ليتني أكون معك إذْ يخرجك قومك ، وقول النبي r : (أو مُخرجيّ هم ؟ ) فقال: ما جاء نبي بمثل ما جئت به إلا عودى) .

وقال العلامة الطيبي في تفسير قوله ـ تعالى ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمين أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض ) - فبكتتهم الملائكة - ( قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك ماواهم جهنم وسآءت مصيرا (النساء: ٩٧ ) أرادوا : أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي تُمنعون فيها من إظهار دينكم، ومن الهجرة إلى رسول الله r كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة، وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلدٍ لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب، - والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر- أو عُلِمَ أنه في غير بلده أقوم بحق الله، وأدوم على العبادة حقت عليه المهاجرة ".

وللعلماء في قوله (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلي الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره علي الله وكان الله غفورا رحيما ) (النساء: ١٠٠ ) أقوال منها قول العلامة الطيبي ، (شبه الدلالة على أنه وقع أجرٌ عظيم لا يُقادَرُ قدره ، ولا يكتنه كُنْهه ، ولا يعلم كيفية إثابته إلا مَنْ هو مسمّى بذلك الاسم الجامع، فدلّ ذلك على أن العمل الذي هذا ثوابه أمرٌ عظيم ، وخطب جسيم، وفي مقارنة هذا الشرط مع الشرط السابق الدلالة على أنّ من هاجر له إحدى الحسنيين : إما أن يورث عدوّ الله مذلة وهو إمّا بسبب مُفارقته إيّاه ، واتصاله إلى الخير والسعة ، وإمّا أنْ يدركه الموت ويصل إلى السعادة الحقيقية والنعيم الدائم).

وقول الفخر الرازي الذي اختاره على غيره حيث قال :"عندي فيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى : ومن بهاجر في سبيل الله إلى بلدٍ آخر يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ، ما يكون سببًا لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصلية، وذلك لأن من فارق وذهب إلى بلدةٍ أجنبية فإذا استقام أمره في تلك البلدة الأجنبية ، ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه، ورغمت أنوفهم بسبب ذلك ، وحمل اللفظ على هذا أقرب من حمله على ما قالوه.

وقد ذكر أهل العلم أن كل هجرة لغرض ديني من طلب علم أو حج أو جهاد أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة أو زُهدًا في الدنيا أوْ ابتغاء رزقٍ طيبٍ فهي هجرة إلى الله ورسوله ، وإنْ أدركه الموت في طريقه فأجره واقع على الله.

والذين يدعون إلى الهجرة إلى بلد آخر فهل هذا البلد أحسن حالاً من البلد الذي هاجروا منه؟ والبلاد الإسلامية عامة ليست مجتمعات كافرة، وليست دار كفر وهي ليست مجتمعات منحلة الخلق معوجة السلوك إلى الحد الذي يخشى المسلم فيه على دينه وخلقه،أنّ أي مجتمع لا يخلو من معصية ومن أخطاء، حتى مجتمع الرسول r وصحابته كانت فيه بعض الأخطاء الفردية، ولم يثبت أنّ الرسول r دعا إلى هجر المجتمع لما فيه من بعض الأخطاء، وإنَّما دعا المخطئ إلى التوبة وحببها إليه، بل ثبت عنه r فيما رواه مسلم في صحيحه: أنَّه قال: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم)

ومن هنا فلا يجوز هجر المجتمع ولا الوطن لأخطاء فيه بل الواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

# ماهي مقتضيات الانتماء للوطن ؟

استقر الأمر على أن الانتماء للوطن قيمة شرعية، وفطرة سوية، وهذا يوجب على كل مواطن عدة أمور منها :

* الحفاظ على المرافق العامة : يجب أن يحافظ المواطن مرافق بلده ولا يعتدي عليها المرافق العامة التي هي من مصالح البلد وأهله، فيحترمها ولا يعتدي عليها وقد جاء في الحديث: "اتقوا اللاعنين" قالوا وما اللاعنان يا رسول الله قال: "الذي يتخلّى (أي: يقضي حاجته) في طريق الناس وظلَّهم"، فشوارع البلد وطرقات البلد يجب أن تصان، ولا يجعل فيها العراقيل التي تؤذي المارة (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ) (الأحزاب ٥٨ وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود في سننه : "اتقوا الملاعنة الثلاث البُراز في الموارد (أماكن ورود الماء) وقارعة الطريق(الطرق التي يمشي فيها الناس) والظل" (والظل مايستظل به الناس من الشجر والحدائق والمرافق التي يتنفس فيها أهل البلد ويستريحون فيها ويستظلون بأشجارها) واتقوا الملاعن، أي: التي توجب اللعنة على من اعتدى عليها،فكيف بمن يدمر المرافق، ويخربها، زعما منه أنه ينتصر لقضايا الوطن فما هو والله إلا الضلال المبين، وهو الإساد في الأرض الذي نهى عنا ربنا تبارك وتعالى .

* إماطة الأذى عن الطريق : هو من شعب الإيمان قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أعلاها قول لا اله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" هذا لا فلا يجوز لأحد أن يقذّره عليهم، فما بالنا بمن يفجر ويخرب ويدمر؟!

* الإحسان إلى جميع المواطنين والمعاهدين وكل من حصل على تأشيرة دخول والدبلوماسيين والسياح أيا كانت دياناتهم : وهو ماتؤيده نصوص القرآن والسنة قال سبحانه وتعالى(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربي واليتامي والمساكين والجار ذي القربي والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) (النساء: ٣٦) فجعل الجوار له حقا من الحقوق العشرة المذكورة في هذه الآية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: في الحديث المرفوع الذي رواه البزار "الجيران ثلاثة جار له ثلاثة حقوق وهو الجار القريب المسلم له حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان وهو الجار المسلم غير القريب له حق الإسلام وحق الجوار وجار له حق واحد وجار له حق واحد وهو الجار غير المسلم له حق الجوار"، فهذا دليل على أن الكافر إذا كان جاراً لك فإنك تحسن إليه له حق الجوار ولا تؤذه، هذا من المواطنة الشرعية التي أمر الله جل وعلا بها.

وكذلك لا يجوز الاعتداء على من دخل في كفالة ولي الأمر أو أحد من المسلمين فإنه يجب أن يحترم دمه وماله وحرمته، حتى يخرج من بلد المسلمين، الله جل وعلا قال: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) (الإسراء: ٣٣) والنفس التي حرم الله، هي نفس المسلم ونفس المعاهد والمستأمن، فهي نفس حرم الله قتلها بدليل أن الله أوجب في قتل المعاهد الكافر خطأ ما أوجبه في قتل المسلم (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلي أهله , إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلي أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله علينا حكيما ) ( النساء: ٩٢ )فأوجب في قتل الكافر المعاهد خطأً ما أوجبه في قتل المسلم من الدية والكفارة، أما من قتل المعاهد متعمداً، فهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه وذلك في الحديث الذي رواه الشيخان : "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين سنة"

فالذي دخل بلاد المسلمين بإذن من ولي الأمر أو من خول له الإذن فإنه يكتسب حرمة النفس وحرمة المال ولا يؤذى حتى يخرج من بلد المسلمين، فهذا من المواطنة الشرعية حتى ولو كان المواطن كافراً له حق الإقامة في بلد المسلمين مادام مقيما فيها فله حق المواطنة الشرعية، فهذه أمور يجب على المسلمين أن يعرفوها.

 

* وجوب إعمار الوطن : يجب على جميع المواطنين أن يعمروا بلادهم بطاعة الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع الظلم فهذا مما يعمر البلاد، واستثمار جميع خيراته وإفلاح أرضه، وتشغيل مصانعه، وصون البيئة وغير ذلك مما يصدق عليه الإعمار وكل ما يكون به الإصلاح للبلاد، قال تعالى( ولا أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين) : ٥٦ وخلاصة القول أنه يجب أن يكون الانتماء ترجمة حقيقية لحب الوطن، فلا اعتداء على محبوب ولاإساءة له بأي مكروه، بل يجب معاملة الوطن كما تعامل من تحب، وكما تحب أن يعاملك من يحبك.

d6835c62be7bd767135c6320495f53c1.jpg
الكاتب الصحفى إسماعيل ابوالهيثم الدكتور إبراهيم الهدهد رئيس جامعة الازهر السأبق