السبت 27 يوليو 2024 09:03 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

فنون وثقافة

الكاتب الكبير أسامة ريان يكتب : أسماء

الكاتب الكبير أسامة ريان
الكاتب الكبير أسامة ريان

غالبني الضحك وحفيدي يحكي لي متحمساً عن صديقه الجديد ، لكني تماسكت حتى يكمل حكايته . كنت في استقباله أمام المنزل عندما وصلت حافلة المدرسة وفتح الباب ، يصر بعناد على حمل حقيبته الثقيلة على ظهره بينما يكمل الحكاية التي بدأها بمجرد أن وطأت قدماه الأرض ، ولم يأبه لتلويح مشرفة الباص له ، توليت أنا رد تحيتها ، عيناه علي ، فأنا بئر أسراره ، والحكاية مشتعلة في رأسه . بدا من الحكاية أن هذا الصديق قصير ، فحفيدي فخور بأنه أطول منه ، لكن بدت في عينيه حيرة عندما بدأ ينطق أسمه ، ونحن نتهيأ لصعود الدرج ، يتلعثم بينما يتحسس الحروف "سان" مرة ، يرتبك فيتوقف ملتفتا ينظر إلي ، وأنا خلفه أخشى أن يتسبب الارتباك في انزلاق قدمه . ثم مع استمرار الحكي عن تحديد مدرِسة الفصل لمكان جلوسه تحول إسم الصديق إلى "جان" ، ولما لعب مع زملائه الجدد في الفسحة ، تلمستُ حرف بدا أنه "ثاء" لطيفة منحرفة بسبب أسنانه المفقودة ، لأنه هذه المرة قال أن الصديق إسمه "ناث" . تبادر إلى ذهني أن المدرِّسة حاولت ترديد الاسم معهم حتى يمكنهم مخاطبة زميلهم الجديد ، لكن الأمر متعسر ، وبدا لي أنه كان يحاول طوال اليوم نطق الاسم ، وهذه هي نتيجة المحاولات المتغيرة ، وبينما يلمح لي أن هذا الولد سريع في الجري ، لكنه سبقه لأنه أطول ، قلت له فجأة "إسمه جوناثان ؟" برقت عيناه فرحا ، وقال لي "صح ، هو كده" .

كنا قد وصلنا الى الشقة ، بينما أفتح الباب متمهلا كالعادة ، أستغرب نفسي كيف تبادر إلى ذهني هذا الإسم الغريب علينا ، من تجميع محاولات نطق حفيدي المُلحة ، ولم يسخرهو مني كعادته وأنا أتلمس مكان المفتاح "مش هنا يا جدو" ، فقد كان منهمكا في استكمال حكايات هذا اليوم العجيب ، استعاد ثقة نطق الإسم بصورة مقبولة ، فقد جاوره "جوناثان" في "الديسك" ليطالع معه في كتبه ، فلم يتسلم كتبه بعد . حاولت أن أعرف منه لماذا تأخر جوناثان شهرين ليلحق بالمدرسة ؟ كان قد تركني مسرعا إلى ركن الردهة ، حيث شاشة التلفيزيون المتصلة بالجهاز العجيب "بلاي ستيشان" ، يتخلص من الحقيبة على ظهره لتقع على الأرض خلفه ، بينما يضغط زر الجهاز ، وأيضا يضبط الموبايل ليأتي صوت زملاء الفصل ، هو اللقاء اليومي بعد المدرسة ، من منازلهم وعبر شبكة التواصل للعِب . أعرف صوت صديقه المقرب "وليد" من جدلهم اليومي حول اختيار اللعبة من هذا "الصندوق" العجيب ، فسرعان ما ينضم إليهم الباقون وتتداخل الأصوات كما لو كانوا في المدرسة مرة أخرى . أجلس على الأريكة الجانبية إلى جوار المكتبة ، يشغلني إسم صديق حفيدي ، هذا الوافد الجديد ، وضعت كتابي جانبا – تملأ تساؤلات رأسي – ترى ماذا دار في مخيلة والدا هذا الصبي ليصبح إسمه "جوناثان" ، وطبعا تشغلني متاعب تبدأ من السجل المدني بموظفيه –منذ سبع سنوات ، وقبل تسجيل الكتروني شائع الان ، وحيرة الحروف : ثاء أم سين في سناء مثلا- ومؤكد ان أبواه اتفقا على الاسم ، هل لأصل ثقافي ، أم أن له ذكرى خاصة تبدو دينية في صياغة غربية .. ولم يشغلهما استخدام الاسم ، فقد يكون له اسم آخر سلس يتداولونه كعادتنا ، ولا يعرفه رفاقه في المدرسة . بينما أستغرق في هذه المعضلة ، صدم أذنيا حديث حفيدي مع وليد عن صديقهما الماهر في كرةالقدم "صُهيب" وهو يخترق صفوفهم بالكرة ، حاولت أن أستفهم منه عن صاحب هذا الاسم الجديد "صهيب" الذي أسمعه للمرة الأولى بين أصدقائه ، رد علي متأففا دون أن يلفت رأسه إلى جهتي "هو زميلي المنقول من الفصل المجاور بعد خناقة مع صديقه حذيفة" . . قال هذا وهب واقفا يصيح بصوت بشع "لماذا قتلته يا وليد ده معانا ، ودي بندقية "إم وان" زي بتاعتنا .." ، على الشاشة فعلا جندي قتيل مخضب بالدماء في ملابس مموهة بالأخضر لأن القتال في الغابة ، يتجادل مع وليد بتحفز حول من المتسبب في هزيمة فرقتهم –أو عصابتهم- أمام الأعداء المقنّعين ومعهم بنادق ذات تلسكوبات ليزرية دقيقة وعدد هائل من الطلقات –يحصونه معا- بينما يعرضون على الشاشة صور أسلحة جديدة مصحوبة بخصائص كل منها في القتل والتدمير ، يحفظونها بماركاتها ، تمهيدا للدخول في معركة جديدة وقد أوشكت معركتهم الحالية على الانتهاء باستسلامهم واقتحام العدو لمقر قيادتهم واستسلام الباقي من جنودهم .. بين عبارات اللوم المتبادلة بينهما عنيفة ، يتهم حفيدي صديقه وليد باغفاله تدمير مخزن ذخيرة الأعداء وهو الذي يحمل الأر بي جي ، بينما يسخر منه وليد لأنه لم يسقط القناص الذي كان يرقب جنودهم بالرغم من أنه يحمل بندقية القنص بالليزر . صمتا فجأة بينما يستعدان للمهمة التالية وقاطعهما دخول صوت زميل معهما على الموبايل –وظهرت صورته واسمه على الشاشة في ركن اللعبة - مُصعب .. قلت في نفسي "ومصعب كمان .. فين أيام أسمائنا المعتادة ماهر وكمال ومحمد وجورج ومينا .. " انتبهت لحفيدي ، يتبادلان إيماءات وتمتمات خفيفة خشية أن يسمعهما مصعب –هل يقبلانه في هذه المعركة ؟- سمعت تمتمات حفيدي يوعز لوليد ألّا داعي لمُصعب في هذه الجولة لأنه يفضل "السلاح الابيض والخناجر" مما سيفسد خططهما ويدفعهما للاقتراب من العدو للاشتباك ، فقالا له معا انهما قد استعدا للعِب هذه الجولة وسيقبلونه فيما بعد . لا يتوقف عن الصياح والقفز طوال القتال الدائر على الشاشة ، حتى أنني أخشي أن يقلب المائدة الصغيرة إلى جواري وعليها كوب شاي ، يختلط صياحه باصوات الانفجارات وزخات طلقات الرشاشات تتخللها أصوات تألم المصابين من المقاتلين المختبئين في الأدغال ، أحمد الله أن صُهيب هذا لم ينضم لهما ، فيبدو أنه صاحب معارك المشاهد البشعة التي تفنن مبدعو هذه ال"فيديو جايمز" في اضفاء المزيد من الدماء والبشاعات إليها ، بحيث يتطاير رشاش الدم ليغطي الشاشة للحظات كافية لإضفاء مزيد من الرعب والهلع –في نفسي على الأقل ، بينما تتحول دهشتي من اقبالهم على هذا اللعبة ، إلى غيظ وضيق بما يعقبها من حكايات تقولها أمه حول فزع وهلاوس تنتابه أثناء نومه ، وترفض الحديث عن اختياره للألعاب –تؤكد أنها لاترفض له طلب ، فاصمت .. فيكفي انه يتحمل غيابها الطويل في العمل .

داهمهما الموبايل برنة قطعت حديثهما الحماسي ، فضغط على زر ايقاف اللعبة ثم زر الموبايل ، جاء صوت أمه –إبنتي- آمرا .. فعنده واجبات لم ينجزها ، خاصة وأن درس "الماث" –الحساب- اليوم وبعد عودتها من العمل . بدت عليه إمارات الضيق بعد أن أنهى الحديث ، نظر إليّ نظرة خاطفة لعله يعاتبني على حديث دار بيننا حول ضرورة أن ينهي واجباته أولا ليتفرغ للعب ، وأن وليد ينهي واجباته قبل أن يبحث عنه بالموبايل ليبدءا اللعب . ساد صمت أعقبه إخبار وليد بأنه لن يستانف اللعب الآن ، مع نظرة متاففة نحوي قام ليحضر الكتاب والكشكول الثقيل . رحت أنظر إليه بينما يحاول تذكر كيفية الحل ، قلت له بدون تدخل أنه يستطيع مراجعة حلول سابقة لتساعده على التذكر ، نظر إلي ، بدا مستريحا لهذا الاقتراح ، راح يقلب صفحات سابقة .. صاح فرحا ينظر إليّ "افتكرت .. " . استغرقتُ في كتابي وقد ساد هدوء نادر في وجود هذا الجهاز اللعين ، لكن تسيطر على ذهني شيوع هذه الاسماء ، وما دلالته ، أسماء هي عندنا ، لكن يتفنن أباء مواليد جدد في صياغتها في لغاتها الغربية بنطقها ، وآخرين يرجعون باسماء مواليدهم لأسماء عربية تاريخية تبدو الآن غريبة وافدة ، ويواكب ذلك هذه الألعاب عالية الدقة الفنية لكنها كلها قتالية ومليئة بتفاصيل أسماء الأسلحة وتوصيفها وتصوير بشاعة استخدامها ، هل ثمة علاقة بين هذين الأمرين ؟

قطع تفكيري صوت دوران مفتاح باب الشقة معلنا عن وصول ابنتي ، دقات كعب حذائها العريض متتابعة بسرعة ، أعرف توترها ، تركت حقيبتها على المائدة في الردهة ، سرعان ما كانت بيننا تطل برأسها على حفيدي ، تعنفه بهدوء على عدم الانتهاء من واجبه وأنه أضاع الوقت في اللعب مع وليد –الذي كالعادة أنهى واجباته- تنظر إليّ بحذر تتلمس هل أشعر بالجوع أم يمكنني الانتظار حين عودتهما ، تجاهلتُ نظرتها ، ربتُ على كتفه مبديا إعجابي بأدائه لواجباته ، لم أنتبه لأن تشجيعي له دفعها لإلقاء نظرة على ما خطه ، خشية ان تتسلل طريقة قديمة إلى فِكره .. لطالما تحذر منها . سرعان ما هبت واقفة تتحدث في الموبايل ، ثم تخبره أن الحصة ستكون في منزل زميلتهم "جويرية" وأن الأستاذة "ميس ميرولا" ستحضر الساعة السابعة ، زادتني هذه الرسالة حيرة ، حتى أني شعرت أنني قد سافرت عبر الزمان والمكان قسرا وبدون أن أشعر ، تشاغلتُ بنشرة الاخبار في التلفيزيون بينما ذهب هو ليستعد للخروج . أضاف خبر ذلك التفجير في العراق هماٌ إلى رأسي ، فقد عرض الخبر لقطات قديمة لخلع تمثال "صدام حسين" وكان هذا ايذانا بنهاية تسميات مواليد جيل باسم صدام ، وطبعا سبقه جيل كان يحمل اسم ناصر .. خفضتُ صوت الجهاز، تحتل الأسماء رأسي ، لكن ما نحن فيه مسألة أخرى كما لو كانت حرب خفية ، تدار بنعومة بواسطة عقل جمعي جبار .

اعتدلت أمدد ساقيّ وأريح رأسي على الوسادة بطرف الأريكة ، وتناولت الكتاب أحاول تتطويح رأسي إلى مكان آخر ولو مؤقتا ، تتقافز في صفحة الكتاب شخوص في ملابس تاريخية اغريقية وبدوية ورومانية ، منها الثمينة ، وأخرى أسمال بالية ، حفظها وعينا من رسومات وجداريات قديمة ثم شخصتها السينما ، منهم من يحمل سيوفا وتطل القسوة من أعينهم ، ومنهم من يحمل برديات مخطوطة صفراء قديمة وعيونهم كسيرة ، رافعون أيديهم إلى السماء ، ويملأ رأسي طنين أصواتهم بلغات مختلفة قديمة ، كلٌ يعلن عن إسمه ، وأراني هناك في أخر هذه اللوحة أصيح وألوح بيديّ ، لكني لا أسمع لي صوتا . افقت على صوت كعب حذاءها تقترب من الباب ومعها حفيدي بحقيبته على ظهره ، وقد "سبسب" شعره ، تتحدث في الموبايل ، أنهت المكالمة ومالت عليه ، تخبره بينما تداعب خده بلطف وتغمز بعينها "إبسط يا عم ، ها نفوت ناخذ صاحبتك مايبل معانا في العربية" .