الخميس 19 يونيو 2025 01:28 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. أحمد يوسف علي يكتب : العمامة والقبعة

د. أحمد يوسف علي
د. أحمد يوسف علي

حين فكر العباسيون في الثورة على الأمويين، كان في وعيهم التعمية على فريق من مؤيديهم الأقوياء وهم العلويون الذين انتصروا لعلي بن أبي طالب وذريته، وتشيعوا لهم. وكان معظم هذا الفريق يقطن الكوفة وخراسان في بلاد فارس. والعلويون والعباسيون أبناء عمومة، ولكن السياسة والطموح لاعتلاء عرش الخلافة لاتقيم لهذه القرابة وزناً. ولم يفكر العباسيون في الجهر بهذا الرأي، واستثمروا الطغيان العاطفي عند الجماهير الحاشدة الممتلئة بكراهية الأمويين، وبالموت عشقاً في العلويين، وصاغوا شعاراً عقائدياً صياغة لغوية غامضة ترضي هذه العواطف المتدفقة بالكراهية للأمويين، وبالعشق للعلويين، وهو" الدعوة إلى الرضا من آل البيت" فآل البيت مصطلح سياسي يتسع لكل من له نسب بالرسول وبيته الكريم وأعمامه وخالاته وعماته، ومن آل البيت الأمويون، فهم من نسل أبي سفيان عم الرسول.
فمن تشيعوا لعلي وآل بيته يعتقدون عن يقين أنهم يناضلون لتحقيق حلم الخلافة العلوية انتقاماً من معاوية وآل بيته. والعباسيون مطمئنون كل الاطمئنان لهذا الاعتقاد وهذا اليقين. وسعوا إلى ترسيخه بزي لاتخطئه العين ويرمز إلى الألم الدفين في قلوب العلويين لقاء ما جرى من تنكيل الأمويين بسبطَيَّ رسول الله الحسن والحسين، وبنساء البيت العلويِّ اللائي ذهبن إلى مصر المكان الكريم والملاذ الآمن الذي يهيم حبا بآل بيت النبوة وبنسلِ عليٍّ وبنيه. فاتخذوا العمامة السوداء غطاء للرأس، وجعلوا راية الجيوش هي الراية السوداء. وبذلك أفلحوا في تجميع الأنصار، وإلهاب العواطف المتأججة، وهيأوا الجموع لأن يصدقوا كل ما يطلقونه من خطب وما يبثونه في الناس من أفكار. والقادة وقت الحروب يرون هذا سلاحاً أمضى من من السيوف والمدافع والطائرات والصواريخ. هذا السلاح الذي لايُفَل هو العقيدة التي تهون على الناس مشقة شظف العيش أوقات الحروب، وتربط بينهم بروابط الألفة والتوحد والانصهار والتضحية، وتشكل جبهة داخلية هي الداعم الأقوى للمقاتلين.
فالعباسيون جعلوا من العمامة السوداء زياً فوق الرأس، وجعلوا من عالم الألوان لوناً هو اللون الأسود يدل على راياتهم التي حين ترفرف تحرك القلوب، وتضخ دماء الحماسة والوهج في كل أنحاء المشهد. إن هذا اللون من التفكير لم يكن تفكيراً غيبياً مستنداً إلى الجانِّ والمردةِ من العفاريت، ولم يكن تفكيراً إقصائياً، ولكنه كان تفكيراً علمياً لم يخلُ من العقلانية ولا من البرجماتية، ولم يستبعد الدين بوصفه منجماً يغذي العاطفة ويعد بالجزاء الأوفى وهو الشهادة في سبيل الله. فقد رسخ العباسيون في عقول مناصريهم ومؤيديهم أنهم يعملون لرفع الظلم الذي أوقعه الأمويون بكافة المسلمين وعلى رأسهم الموالي، كما أوقعوه بأل البيت العلوي، وأن هذا القتال قتال في سبيل الله. وهم لم يقصدوا إلى إقصاء من يصدقهم ويتطلع إلى تحقيق حلمه عبر الخلاص من الأمويين. فلم يقصوا الموالي وأغلبهم من الفرس، ولم يقصوا الشيعة الذين ظنوا أنهم شركاء العباسيين في الحلم. ومع ذلك لم يفصحوا عن نواياهم إلا بعد الانتصار النهائي على الأمويين، واستتباب الأمر لهم.
لقد اجتمع في هذا التفكير العقل والدين والبرجماتية وقد أفضى إلى تسيير الجيوش، وترسيم القادة، وتحديد الأهداف، وتوقيت المعركة، وإنهاء القتال، وإعلان قيام الدولة الجديدة التي لم تكن دولة العلويين الذين قاتلوا تحت راية الرضا من آل البيت، ولم تكن دولة الموالي من الفرس الذين كان لهم ثأر مع العروبة التي مثلها الأمويون، ولم تكن دولة العرب الذين استثمر الأمويون انقسام ولائهم بين القحطانية والعدنانية، وقد أعلنها الخليفة أبو منصور السفاح دولة العباسيين دون غيرهم من بيوت آل البيت. ومع أن هذه الدولة حققت هذا التحول الحضاري في تاريخ الإسلام والمسلمين، فإنها في الأخير دولة دينية يقبع على رأسها أمير المؤمنين الذي يعتلي العرش بالوراثة، ويمثل ظل الله في الأرض، وينوب عن الناس في علاقتهم بالله.
هذه الدولة التي أفادت من كل مؤيديها في وقت الثورة على الأمويين، وداعبت أحلامهم بذكاء عجيب، هي التي تركت جراحاً لم تَنْدمِل واتسعت باتساع الأيام والسنين، بعد أن اضطهد الأمويون العلويين، وبعد أن خدعهم العباسيون، وناصبوهم العداء. فقد ظلت دراما علي وبنيه تتنامي في وجدان الشيعة ومؤيديها من أطياف الناس، وظلت دوائر الأحزان والبكائيات تزدهر ولا تنقطع ووجدت مستراحاً في دولة الولي والفقيه التي لم تخلع العمامة السوداء ولا الرايات وأكملت دائرة السواد بالأزياء السوداء للرجال والنساء. أعني دولة إيران بعد ثورة الخميني على الشاه.
هذه الدولة التي ظلت تتخذ من العمامة والأزياء والألوان السوداء رموزاً لها منذ ثمانينيات القرن العشرين حتى الآن لم تستطع أن تنتفع بعلم عصرها ولا بحداثة نظم الحكم ولا باستنارة الدين، ولا بنظم الاتصال في خطاب إنساني مشترك يجمعها وكل شعوب العالم. كانت دولة العباسيين نموذجاً ملهماً في وقتها حين تولى أمرها خلفاء عظام مثل هارون الرشيد وابنه المأمون. أتاح لها هؤلاء الانفتاح على علوم الحضارات الأسبق، وعلى فكرها وثقافاتها وفنونها وأعراقها ولغاتها، ولم تعد الثقافة العربية بكل مكوناتها هي الثقافة الوحيدة المهيمنة. ونتج عن ذلك فكر جديد وشعر جديد وشعراء جدد ليسوا من أصول عربية خالصة وعلماء جدد من أصول مشتركة وغير مشتركة، وحوارات عقلية مزدهرة وجدناها في بيئات الفرق والنحل والمذاهب.
هذه الدولة التي أفادت من الحضارة الفارسية، اقتبس منها أمراء إيران العمامة السوداء، والأزياء السوداء للرجال والنساء والانخراط في الشكل وكأنه الغاية الكبرى. ومع أن هذه الألوان السوداء تجسيد لأيديولوجية مغلقة تسربت عبر التاريخ، فقد فرضت على إيران ما يشبه العزلة، وجعلت كثيراً من الحكومات تتوجس ريبة في سياساتها ومسعاها نحو العلم، وامتلاك أسباب القوة. ولم يكن التشيع وحده مصدر الخوف والتوجس ولكن أصحابه من الملالي وغيرهم، أسسوا لإسلام مختلف، وفقه مختلف وهم يجاورون دول الخليج العربي ذات الإسلام المحافظ والفقه الموروث الذي يعلي من هيبة الحاكم في نفوس المحكومين. وقد ازدادت وتيرة الخوف والشك وفقدان الثقة عند هذه الدول بعد أن تمددت إيران في محيطها الاستراتيجي تمدداً عقائدياً جعل الموت هينا والمختلف عدواً. ونتج عن ذلك الاستعانة بالقوى الكبرى المناوئة لأيديولوجيا إيران، مع أن هذه الدول تحركها أيديولوجياتها التي تبثها بثاً مباشراً وغيرَ مباشرٍ في كل منتجاتها المادية والثقافية، وتقاتل في سبيلها إن لزم الأمر إما بالوكالة، وإما بقوتها الصلبة.
وقد غدت العمامة هي الصورة الرمزية المقابلة للقبعة. ونحن في عصر الصورة التي تُغني عن أي كلام بقدرتها على النفاذ والتأثير في وجدان الجماهير. وهي مقابلة بين زمنين: زمن مغرق في الماضي بكل صوره ورموزه، وزمن موغل في الحداثة وما بعدها. وازدادت حدة التناقض والتقابل حين جمعت إيران بين الفكر القديم وبين العلم وتكنولوجيا العصر، وبين احتكار السلطة من منطلق فقهي وبين الاستعانة بالشعب بوصفه ظهير السلطة، وانتشار وسائل الاتصال، والحجر على تعدد الآراء واختلافها. إن طريق التقدم لم يعد سراً ولا حكراً على أحد. فالعلم والتداول السلمي للسلطة وانفتاح الأفق السياسي، واحترام التباين الفكري والعقدي والثقافي، وتأسيس اقتصاد قوي على أسس علمية رشيدة، والاتكاء على فكرٍ عقديٍّ يُلبي حاجة العرب والمسلمين إلى أن يكونوا نسيجاً من أنسجة زمنهم. كل ذلك وغيره هو طريق التقدم والمدخل لانسجام العمامة مع القبعة.

د. أحمد يوسف علي العمامة والقبعة الجارديان المصرية