د.عماد خماج يكتب من طرابلس : المسرح... من الواقع إلى الخيال وأخيرًا التجسيد على خشبة المسرح


لطالما كان المسرح مرآة تعكس واقع الإنسان، لكنه لا يكتفي بذلك، بل يُعيد تشكيل هذا الواقع من خلال خيال فني خصب، ليقدمه في نهاية المطاف تجسيدًا حيًا على الخشبة. فالمسرح ليس مجرد تقليد للواقع، بل هو فنّ إعادة إنتاج المعنى من خلال تقنيات الخيال، والبناء الدرامي، والأداء التمثيلي، والسينوغرافيا. ومن هنا، تتجلى قدرة المسرح على التحوّل من المعايشة اليومية إلى الإبداع الفني، ومن اللحظة الواقعية إلى التجربة الرمزية.
أولاً: الواقع كمادة خام للمسرح
ينطلق المسرح غالبًا من الواقع، من الأحداث والتجارب والمآسي التي يمر بها الإنسان في حياته اليومية. لكن هذه المادة الواقعية لا تُنقل كما هي، بل تُعاد صياغتها لتُصبح قابلة للتأمل الجمالي. يقول بريخت في هذا السياق: "ليست وظيفة المسرح أن يعكس العالم كما هو، بل أن يُظهره على نحو يمكن تغييره"¹. فالواقع هو نقطة الانطلاق، لكنه ليس الغاية.
ثانياً: الخيال كوسيط بين الواقع والفن
الخيال المسرحي هو القوة الخلاقة التي تُحوّل التجربة الواقعية إلى عمل فني. إنه المجال الذي يتحرر فيه الكاتب والمخرج والممثل من القيود المادية للواقع، ليُبدعوا عوالم جديدة تستند إلى الرمز والتأويل والتكثيف. يقول أنطونين أرتو: "علينا أن نؤمن أن كل شيء في المسرح يمكن أن يُستبدل بالتخييل"²، في إشارة إلى قدرة الخيال على تجاوز المحسوس والمباشر، نحو التعبير العميق عن الإنسان.
ثالثاً: التجسيد على خشبة المسرح.
بعد المرور بالواقع والخيال، تأتي المرحلة الأخيرة: التجسيد المسرحي. وهي العملية التي تتحقق من خلالها الرؤية الإبداعية أمام الجمهور. فالعرض المسرحي ليس مجرد نقل للنص، بل هو بناء حيّ تتفاعل فيه العناصر: الجسد، الصوت، الإضاءة، الديكور، الموسيقى، الحيز المكاني والزمني. وهنا، تتجلى الوظيفة الأساسية للمخرج بوصفه "المهندس المعماري للعرض"، كما يصفه أنتوني هورن³، حيث يُترجم الرؤية الفنية إلى لغة ملموسة محسوسة.
رابعاً: جدلية الحضور والتأويل
عندما يُجسَّد العرض أمام الجمهور، لا يُختتم العمل بل يبدأ حوار جديد بين الخشبة والمتلقي. فالحضور المسرحي ليس مجرد وجود جسدي، بل فعل إدراكي وتشاركي، حيث يُعيد الجمهور تأويل ما يراه وفقًا لخبراته ووعيه. وهكذا، يُصبح المسرح فضاءً مفتوحًا لإنتاج المعنى، وليس فقط لنقله. فكل عرض هو لقاء جديد بين الواقع المُعاد تشكيله، والخيال المُجسد، والمُتفرج الذي يفسّر.
خاتمة
إن المسرح هو رحلة إبداعية تبدأ من الواقع، تمر بالخيال، وتنتهي على خشبة المسرح، دون أن تنفصل عن أحد هذه المكونات. فهو يستمد مادته من الحياة، ويحوّلها بخيال فني، ويمنحها شكلاً حيًا عبر التجسيد. وبهذا، يتحوّل المسرح إلى أداة معرفية وجمالية تُعيد تشكيل رؤيتنا للواقع، وتمنحنا فرصة تأمله وتغييره.
---
الهوامش:
1. بريخت، برتولد. الأعمال النظرية. ترجمة: سعد أردش. بيروت: دار الفارابي، ص 112.
2. أرتو، أنطونين. المسرح وقرينه. ترجمة: فائز كم نقش. دمشق: منشورات وزارة الثقافة، ص 76.
3. هورن، أنتوني. إخراج المسرح. ترجمة: د. نبيل الحفار. بيروت: منشورات الجمل، ص 55.