خالد درة يكتب: بالعقل أقول…( احتلال في زمن المجاعة... و العالم يتفرّج ..! )


منذ شهور طويلة أصبح سوء التغذية أمراً شائعاً في القطاع ، و نبّهت تقارير منظمة الصحة العالمية و وكالة "الأونروا" مراراً الى استشراء الأمراض الناجمة عنه ، بالتزامن مع التدمير المتعمّد للنظام الصحّي و وجود عشرات آلاف الحالات التي تتطلّب إجلاءً للعلاج في الخارج ..
فقد أصبح العالم في اختبار مروّع : إنها المجاعة "رسمياً" في غزّة ، بإقرار من الأمم المتحدة .. إنها المجاعة الأولى في الشرق الأوسط في القرن الحادي و العشرين .. حيث كانت كانت المجاعة السابقة إبان الحرب العالمية الأولى ، قبل قرنٍ ونيّف ..
المجاعة الراهنة صناعة إسرائيلية : حصار مطبق و دمار شامل و حرب مستمرة منذ نحو عامين ، و لما تقترب بعد من نهايتها .. هي تنفيذ لقرارات اتخذتها حكومة إسرائيل و أيّد أعضاؤها بالإجماع "تجويع الغزّيين للضغط على حماس"، و كانت الخلافات تنشب في ما بينهم علناً متى اقترح أحدهم "تخفيف الحصار" و لو لمجارات الضغوط الدولية .. و بالنسبة إليهم كان التجويع من أسلحة الحرب ، و كان "نجاحه" عنصراً أساسياً في فاعلية الإبادة الجماعية و التطهير العرقي و التهجير القسري .. و في الشهور الأخيرة ، مع انكشاف كل هذه الجرائم و تصاعد الاستنكار العالمي ، لم يعد لديهم أيّ اعتبار لأيّ جهة دولية حليفة أو صديقة ما لم تقدّم ، مثل دونالد ترامب و إدارته ، و مثل الحكومة الألمانية ، دعماً مطلقاً للحرب ، كما يخوضونها ، بلا قوانين و لا ضوابط و لا أخلاقيات ..
منذ شهور طويلة أصبح سوء التغذية أمراً شائعاً في القطاع ، و نبّهت تقارير منظمة الصحة العالمية و وكالة "الأونروا" مراراً إلى استشراء الأمراض الناجمة عنه، بالتزامن مع التدمير المتعمّد للنظام الصحّي و وجود عشرات آلاف الحالات التي تتطلّب إجلاءً للعلاج في الخارج .. و عندما ظهرت مؤشرات المجاعة دقّت منظمات الإغاثة نواقيس الخطر ، لكن "لجنة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي" تأخّرت شهوراً عدة قبل أن تقرّر أخيراً أن كل معايير المجاعة قد تجمّعت ، و لم تأخذ في الاعتبار أن النقص الحاد في الغذاء و المواد الأساسية ، خصوصاً حليب الأطفال ، كان يقتل ببطء و بصمت زارعاً أمراضاً شتى لن تُشفى أو تزول حتى لو توفّر الطعام بكميات كافية و بانتظام ، لكنه لن يتوفّر .. و مع أن إسرائيل خادعت بأنها خفّفت قيودها نسبياً ، إلا أن إحصائية أممية أفادت أخيراً بأن 2187 شاحنة مساعدات دخلت القطاع خلال 25 يوماً ، فيما الكمية المطلوبة - و المتوفّرة - لسدّ الحاجات كانت تتطلّب 15 ألف شاحنة ..
الأمر الذى يجعل هذا "فشلٌ للإنسانية"... هكذا وصفت الأمم المتحدة المجاعة في غزّة ، و قال توم فليتشر ( المسؤول الأممي عن الشؤون الإنسانية ) إنها "مجاعة أُحدثت بالقسوة و بُررت بالانتقام و مُكّنت باللامبالاة و استمرّت بالتواطؤ"، لافتاً الى أنها "تحصل تحت رقابة المسيّرات و التكنولوجيا العسكرية الأكثر تقدماً في التاريخ ، و كان يمكن تفاديها لولا العرقلة الإسرائيلية لدخول الأغذية المكدّسة على بعد مئات الأمتار من الحدود"..
أما بنيامين نتنياهو فواصل أطول مسلسل لأكاذيبه اليومية معتبراً تقرير الأمم المتحدة "كذباً محضاً"، وقال : "إسرائيل لا تنتهج سياسة التجويع ، بل تنتهج سياسة منع التجويع".. لكن أنطونيو غوتيريش شدّد على أن "إسرائيل بوصفها القوة المحتلة عليها إلتزامات ، بموجب القانون الدولي ، بضمان الإمدادات الغذائية و الطبية"، و قال: "لا يمكن أن نسمح باستمرار هذا الوضع من دون عقاب"... صحيح أن القانون الدولي يمكن أن يعاقب إسرائيل على "جريمة استخدام التجويع كسلاح حربي"، إلا أن هذا القانون يحتاج إلى تفعيلٍ يبدو مستحيلاً ما دامت الولايات المتحدة تحصّن إسرائيل بـ"الفيتو" الدائم و تشنّ حملة عقوبات ممنهجة ضد قضاة المحكمة الجنائية الدولية ..
حتى المجاعة لم تمنع قادة إسرائيل من إصدار الأوامر لاحتلال مدينة غزة و مخيمات وسط القطاع ، فهذه من المناطق التي لم يُقتلع سكانها ، و قال وزير الحرب يسرائيل كاتس : "سنجعلها مثل رفح و بيت حانون"، أي "أرضاً يابسة " خاوية من أي مظاهر للحياة .. و بدلاً من الغذاء و الدواء اللذين يمنعونهما ، تعهّد قادة إسرائيل بتوفير خيام للنازحين الجدد .. و جاءت التحذيرات لإسرائيل من كل الأنحاء بأن استكمال احتلال القطاع يتسبب بـ"كارثة إنسانية"، لكن هذه الكارثة هي بالضبط ما تريده إسرائيل .. ولم يكن صعباً عليها أن تُفشل للمرّة الألف مفاوضات الهدنة و تبادل الأسرى ، فإذا عُرضت عليها "صفقة شاملة" طلبت "صفقة جزئية" ثم العكس بالعكس ، و قيل إن موافقة "حماس" على المقترح الأخير "أحرجتها" لكنها زاوجت بين مواصلة التفاوض و بين مباشرة عملية احتلال مدينة غزّة ..
و فى الوقت نفسه فإن عائلات العسكريين الرهائن الباقين أحياءً أصبحت متيقّنة الآن بأن حكومة نتنياهو قرّرت تصفية أبنائها .. و في ذروة العجز العربي و الدولي يسود الجنون الأميركي- الإسرائيلي .. فترامب يضغط للحصول على "نوبل السلام" و يفاوض السماء على "دخول الجنّة" من بوابة أوكرانيا ، و نتنياهو يتسلّح بـ"تكليف إلهي" للتمدّد في المنطقة و إقامة "إسرائيل الكبرى"، و بتسلئيل سموتريتش يخصّب "صهيونيته الدينية" بمشروع استيطاني طرحه تحت شعار "الموت للعرب" معلناً أن هدفه "دفن الدولة الفلسطينية"...
أما الدول الغربية التي تسارع اليوم للاعتراف بـ"دولة فلسطين" فقد غضّت النظر طوال عقود عن كل الجرائم الإسرائيلية ، من الاحتلال إلى الاستيطان ، و من إجهاض كل عمليات السلام إلى الإبادة الجماعية غزّة ، إلى محاولة تهجير الغزّيين إلى دولة جنوب السودان التي تعاني أيضاً من خطر مجاعة كامن .