الجمعة 5 ديسمبر 2025 02:22 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د.نهال أحمد يوسف تكتب : ضي الكادر النوبي.. ووعد ”السيرة” الذي لم يكتمل

د. نهال أحمد يوسف
د. نهال أحمد يوسف

"ضي.. سيرة أهل الضي" ليس مجرد فيلم، إنما هو لحن نوبي خالص يُعزف على أوتار الذاكرة البصرية، رحلة تتجاوز حدود الحكاية المباشرة لترسم قصيدة سينمائية عن الاختلاف في زمن التنمر. يتضح منذ الوهلة الأولى أن هذا العمل يعتمد بجرأة على فخامة التعبير الفني لخلق انطباع عاطفي عميق، مما يجعله يتجاوز العثرات الكلاسيكية في بناء السيناريو والحبكة.

في حضرة "ضي"، تتحول الكاميرا إلى راوٍ حقيقي يفوق ببيانه بيان الكلمات، ويُعلن أن الألوان والإضاءة والكادرات هم أبطال هذا المشهد. فالألوان ليست مجرد درجات، إنما هي سرد بصري؛ مشاهد النوبة والمناطق الجنوبية تزخر بألوان غرافيكية دافئة تُبرز أصالة المكان، بينما تتحول الإضاءة إلى لغة سينمائية تفضح التناقض. الضوء القاسي، رمزاً لمرض الألبينو، يتكسر ويتحول إلى ظلال حانية على ملامح الطفل "ضي"، معبراً عن معاناته وحاجته إلى الاحتواء. هذا التناغم البصري يُعلي من قيمة الفيلم ويمنحه خلفية شعرية خالدة. إلى جانب الصورة، تستقي الروح الموسيقية لمحمد منير شرعيتها كبطل روحي للفيلم، فهي لا تُشَكِّل فقط الخلفية الصوتية، لتصبح العمود الفقري العاطفي والدافع الأسمى لحلم البطل، وهي من تُعيد للمشاهد الأمل في أحلك المنعطفات.

ولكن، يبرز هنا تساؤل نقدي حول وعد العنوان؛ فـ "سيرة أهل الضي" توحي بسرد يغوص عميقاً في نسيج المجتمع النوبي وذاكرته، مقدماً بيوغرافيا جماعية تتجاوز الفرد. غير أن الفيلم اختار أن يضيق إطاره ليصبح "صورة لـ ضي" ورحلته الشخصية، وليس "سيرة لأهل الضي" بشكل موسع. لقد استُخدمت النوبة هنا كـ خلفية بصرية ووجدانية آسرة لقصة إنسانية مؤثرة، لكنه لم يُقدم التحليل الثقافي والاجتماعي العميق الذي يوحي به الاسم، واكتفى برحلة الطريق التي، وإن كانت جميلة، قيدت نطاق الاستكشاف الثقافي الأوسع.

ورغم هذا التقييد، تتجلى قوة الفيلم في عمق رسالته الإنسانية التي تدور حول مفارقة "الولد ذو البياض الصارخ في قلب السمرة النوبية". إن هذا الانعكاس الجريء يجعله مرآة تعكس أزمة تقبّل "الآخر" في صورته الأعقد. "ضي" ليس ضحية لـ "لون" مخالف فحسب، إنما هو ضحية لثقافة ترفض الطفرة حتى لو كانت براءة جينية. ويتضاعف الإسقاط مع شخصية المُدرسة الداعمة (أسيل عمران)، التي تُمثل نموذجاً للأنثى المُحفّزة والمختلفة. بوصفها مسيحية صعيدية تحمل لواء التنوير والأفكار المتحررة في وجه الرفض الاجتماعي التقليدي، فإنها تعزف على وتر آخر من التنوع المقموع، لتصبح رمزاً للقوة القادمة من خارج الدائرة الضيقة للتقاليد، وتؤكد أن مشكلة تقبّل الآخر هي أزمة إنسانية شاملة لا تقتصر على الهوية الواحدة.

على الرغم من هذا الثراء الفني والاجتماعي، يكمن التحدي النقدي الأبرز في هشاشة المتن السردي؛ فالقصة تُبنى على أرضية "سينما الطريق" المبسطة، حيث يغلب الإحساس والموسيقى على منطق الأحداث وتفاصيلها. هذه البساطة المفرطة في السرد جعلت ظهور ضيوف الشرف اللامعين على التوالي: الفنانة القديرة عارفة عبد الرسول، ثم النجم أحمد حلمي، يليهم أيقونة الغناء الكينج محمد منير، والفنان محمد ممدوح، والإعلامية لميس الحديدي، أشبه بـ "نجوم زائرة"؛ إطلالات متميزة لكنها لم تُستثمر بعمق لخدمة تطور القصة. كان بالإمكان تعميق هذه الأدوار الجانبية لتصبح شرايين قوية تغذي البكرة الدرامية، بدلاً من أن تظل نقاطاً عابرة أهدرت فرصة لتقوية النص. لقد جاءت هذه الأدوار كجسر للعبور أو "مفتاح جذب" أكثر منها كضرورة درامية، مما أضعف إمكانية بناء حبكة أكثر ثراءً.

يظل "ضي" في النهاية انطباعاً دافئاً، فيلماً يلامس الوجدان ويُحاكي المشاعر بأدوات فنية باذخة. هو احتفاء بالجمال البصري والروحي، وتذكرة بأن السينما، في أرقى صورها، قادرة على زرع الأمل والاحتفاء بالاختلاف، حتى لو كان النص يتهاوى أمام روعة الصورة والموسيقى. "ضي" هو دعوة للتأمل في دواخلنا وقدرتنا على رؤية النور في كل ما هو مختلف.

د.نهال أحمد يوسف ضي: الكادر النوبي.. ووعد ”السيرة” الذي لم يكتمل الجارديان المصرية