السبت 16 أغسطس 2025 05:25 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

محمد سعد عبد اللطيف يكتب: زمان الرجال… وابتسامات الخديعة..حين ورث أشباه الرجال المسرح، واحترقت البطولة، وبقي القطيع يصفّق

الكاتب الكبير محمد سعد عبد اللطيف
الكاتب الكبير محمد سعد عبد اللطيف

– البكاءُ على زمنٍ عزَّ فيه الرجال… زمنٍ صعد فيه صعاليكُ الخطابة الذين تحدّث عنهم سقراط قبل الميلاد، ووقف هو على مقصلة الإعدام كاشفًا سوءَ عورات المجتمع الذي عاش فيه، متأملاً تبدّل الوجوه وانقلاب القيم. حاول أشباهُ الرجال أن يرثوا الرجال، لكنّ المسرح احترق، وازدحم بالكومبارس، وبقي القطيع يصفّق وكأنهم يباركون موت الملك "أحا"، آخر ملوك الزمن الجميل.
-- في أوائل السبعينيات، شهدت قريتنا بعضَ الخصومات الحادّة، نتيجة انقسامها في انتخابات الاتحاد الاشتراكي بين جبهتين. كان الخلاف على أشدّه، يملأ الشوارعَ حماسًا، والأصواتُ تعلو في النهار دفاعًا عن المواقف والمبادئ. لكن حين يحلّ المساء، كان “المرقد” وجلسات الليل وشرب الأرجيلة تجمعهم من جديد، يضحكون، يتبادلون النكات، ويتحدثون عن الزرع والمطر، وكأن السياسة التي فرّقتهم نهارًا، عاجزةٌ عن كسر روابط المودّة التي نسجتها العِشرة وجيرة السنين.
-- وكانت القرية في ذلك الزمن قطعة من حنين. سوقها يفرش قلبه كل أسبوع أمام ضريح العارف بالله سيدي الأزمازي، حيث تختلط رائحة التوابل بعبق البخور، وتتعانق أصوات الباعة مع تلاوة الفاتحة على روح الولي. وفي وسط الساحة، كان يقف الساري شامخًا كأنه مسلة فرعونية تربط الأرض بالسماء. وعندما يحل المولد السنوي، تتحول القرية إلى كرنفال وعيد، ألوان وأهازيج وضحكات، حتى الهواء كان يرقص معنا.،،--
في الصباح، كانت المواشي تغمر الطرقات متجهةً نحو الحقول، وفي المساء تعود مُثقلة برائحة العشب والماء. وعلى شواطئ الترعة، كان الإوز بألوانه الزاهية يصطف صفوفًا كأنهم حراس معبدٍ قديم، يراقبون المارة في صمت مهيب. وكان موسم الحصاد عيدًا آخر، النورج يدور لهرس القمح على إيقاع أناشيد الفلاحين، وماكينة "المدرواتي" تصدح بصوتها الممزوج برائحة التبن وعرق الرجال.
--أما اليوم، فالمشهد تغيّر… اجتمعت الوجوه في الأفراح والأتراح، لكن امتلأت بنفاق صامت وابتسامات خديعة، وكلمات مجاملة تحمل في باطنها رياءً وكذبًا. ازدحم المسرح، والنار تشتعل من جانبي الخشبة. النظرات تراقب الداخل والخارج: من صافح من؟ ومن عانق من؟ وما صلته بهذا أو ذاك؟ في زمن الاستحقاق الانتخابي، تتحول القاعات والسرادقات إلى مسارح مراقبة، تُقرأ فيها الإيماءات وتُسجَّل العناقَات وتُفكَّك الابتسامات.
-- لقد مضى زمن كان فيه الرجال يختلفون في الرأي، لكنهم يلتقون على المودّة؛ واليوم صاروا يتفقون على الابتسامات الزائفة ويختلفون على المصالح الضيقة. رحل زمن الرجال الذين إذا صافحتهم شعرت بحرارة قلوبهم قبل دفء أيديهم، وجاء زمن تبحث فيه في العيون فلا ترى إلا مرايا تعكس صورتك مشوهة بابتسامة كاذبة.،،،
آه يا قريتي… متى تعودين كما كنتِ؟
متى يعود السوق، والمولد، والحصاد، والنورج، والمدرواتي، وطيور الإوز على شاطئ الترعة؟
إن عدتِ، عدنا… وإن غبتِ أكثر، سنصبح نحن أيضًا في خبر كان...


--محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية ،،!!

محمد سعد عبد اللطيف زمان الرجال… وابتسامات الخديعة..حين ورث أشباه الرجال المسرح واحترقت البطولة وبقي القطيع يصفّق الجارديان المصرية