محمد سعد عبد اللطيف يكتب : عودة قطار بلا ركاب


(من يوميات كاتب في الأرياف)...قطار العمر بين الغياب والحنين
القطار ليس مجرد وسيلة سفر، بل هو رمز لحياةٍ تمضي على قضبان مرسومة، فإذا ما انحرف عنها صار كل شيء عبثيًا. كان القطار في قريتنا وعدًا باللقاء وجرسًا لبداية النهار، يجيء محمّلًا بالأخبار والوجوه المألوفة، فينثر على الأرصفة دفء الحياة. لكنه حين يغيب، يغيب معه الزمن والناس، ويغدو الانتظار مجرد صمت ثقيل على الرصيف.
⋯
وقفت على كوبري المحطة، أرقب القضبان التي غطاها الصدأ، وأنتظر صفير القطار كما كنت في صباي. في زمن المسخ عاد بي القطار، أو هكذا خُيّل إلي، لكن حين أعددت نفسي لانتظار المحطة، اكتشفت أن القطار يسير خارج القضبان، كأنه يبحث عن درب آخر لا يعرفه أحد.
-- الناس كانوا يتهامسون من حولي، أصواتهم متقطعة كحلم بعيد. فلاحي قريتي ما زالوا يجلسون على ضفتي الترعة والكوبري، لكن الزمن أثقل وجوههم، وأطال الانتظار حتى غاب الضحك. كنت أبحث عن لحظة عودة الروح، عن بشارة عودة الغائب، لكن الوجوه تبدلت، والأسماء غابت. ..أين عمي نصر بائع الجرائد الذي كان يوزع الأخبار بحماسة الفجر؟ وأين عمي حامد بائع العرقسوس الذي كان صوته ينعش العطاش في صيف القرية؟ كلاهما غاب. الناس عطشى، حيارى، ينتظرون أن يسمعوا صوت القطار، ينتظرون دخانه المتصاعد من بعيد، لكن لا قطار ولا بائع جرائد ولا كأس عرقسوس.
--المشهد من أعلى الكوبري بدا غريبًا، وكأن القرية نفسها تبدلت. لم يصل القطار. سرقوا القطار… حتى العمر سرقوه. قالوا إن القطار سافر، وربما العمر نفسه قد سافر. كلنا مسافرون، كلنا على رصيف بلا محطة، وفي يدنا تذكرة لا تحمل وجهة.
ظللت واقفًا هناك، أسمع الصمت يتكلم أكثر من الناس، وأدركت أن القطار الذي رحل لم يكن مجرد قطار، بل كان عمرًا مضى، وكان وجوهًا غابت، وكان زمنًا لن يعود. عندها عرفت أنني كنت أنتظر شيئًا رحل إلى الأبد.
--لم يكن القطار هو الغائب… كنا نحن.
غاب الدخان، وبقي الصدى يتيمًا في الهواء.---