الومضه الثانيه ( الجزء الثاني)
الكاتب الكبير علاء عبدالعزيز يكتب : سعيكم مشكور.


اليوم الخميس الاخير من شهر ديسمبر، اخر الاسبوع والكل له مشاوير في العاصمه كما ان العاملون بها يعودون الي بيوتهم في القري في اجازه سريعه سرعان ماتنتهي فيعاودونً الكره في البحث بعيدا عن لقمه العيش.
بدا الموقف الكبير التي اعدته بلديه المدينه وخصصته لسيارات الاجره " البيجو والميكروباس" كخليه نحل مفتوحهً علي مصرعيها لارابط لها ولايحكمها غطاء ، مجموعات من الناس يهرعون في كل اتجاه ، وبطون جائعه تتحلق حول عربات الكبده والفول والطعميه ، وبعد ان تشبع تنتقل الي عربات الكسكسي والارزباللبن كي تأخذ حلوها، عربات الباعه الجائلين كانت تسد فوهه مدخل موقف سيارات الاجره ، ويتركون جزء صغير من الفوهه يكفي لدخول سياره ميكروباس واحده فتحك ظهر الواقفين ، والود ودهم الا تدخل الي الموقف اي سياره ، حتي اقترحوا ذات مره علي السائقين الا يدخلوا الي موقف السيارات وينتظرون بالخارج وهم علي استعداد تام لتوجيه الركاب نحو اصطفافهم خارج محطه الركوب كي يخلو لهم الجو ويقف زبائنهم مستريحون بعيدا عن اوعي يافندي ، وسع يابيه ، كفايه حش يا وليه .
مما ذاد الطين بله تلكم الامطار التي تتساقط علي الرؤوس والسقوف وتَحفر برك عميقه وضحله من المياه بين السيارات وفوق الارصفه، وبدأت انفعل وبدأ قلبي يدق ، وخِفتُ ان افقد نفسي في الطريق وانا ذاهب لتقديم واجب عزاء في قريب لي بقريه القواسم ، تحدثني نفسي عما سوف يقوله الناس بعد ان ألقي حتفي في الطريق الموحل الذي سوف اسير فيه مسافه ثلاث ساعات من الحذر والترقب، فأُبطل حديث النفس بالتحصن بأيه الكرسي والايات المنجيات، وانا في خضم السرحان سمعت احد سائقي الميكروباس ينادي :
يله ناقص اثنين كفر صقر ونخلع من هذا المكان الملئ برائحه التقليه! انا ايه بس اللي دخلني الموقف ! مانا كل مره باحمل من بره، فرد عليه احد السائقين :
ياعم النهارده يوم الخميس والركاب كثر والعَجَل قليل ، دا انت جاي بقالك خمس دقائق وناقص لك واحد!
كبرَ اخينا الذي اعتاد الوقوف بالخارج في وجه اخينا الذي اعتاد الوقوف بالداخل ،وبعد التكبير خَمَسْ في وجه بالعشره حتي كاد يفقع له عيناه ، فازاح يده وطفقا يبدأَ العراك لولا وصولي الي باب الميكروباس الامامي ومخاطبتي لصاحبه:
بينا يأسطي انا سوف اشيل المقعد الامامي الذي يتسع لنفرين ،وما أن سمع صاحبنا خبر شيل المقعد الامامي حتي علت وجهه الابتسامه بعد تكشيرة خوفه من الحسد وقَبلَ السائق الاخر قبلتين علي كل خد معلنا ضرب هدنه بينهم ثم اردف:
طاب مش عايز حاجه ؟وكأنهم احباب لم يسبق لهم التناوش والتعارك من قبل ، ثم ودع صديقه بقبله ثالثه علي الهواء ، وقفز في سيارته يجاورني في المقعد الامامي وانطلق بسيارته، وفي الطريق بدأت معاناتي مبكرا من السائق المتصابي الذي جاوز الخميسين، ولم يكف منذ وجودي بجانبه عن الحركه يمينا تاره ويسارا اخري ثم يدير رأسه للخلف يحملق في الركاب ويرمقهم بنظره سريعه لاهدف لها ولامعني ، ثم يرتد الي الامام يحدثني عن مشاكله مع الركاب بسبب الاكره وفتح الزجاج علي الفاضي والمليان ، ضربت بنظري علي الاكره فلم اجدها في موضعها المخصوص بالقرب من متناول يدي ، فاردفت الي السائق ذات الوجه الممصوص والاسنان المعوجه والشعر الابيض:
هي فين الاكره التي تتحدث عنها فجاءني الرد سريعا:
اضرب بإيدك في جيب الباب وركْبها ، انا حلاقي اعز منك اهب له الاكره! لو لم تكن الامطار ماكنت سألته عن أُكراه المقدسه ، فلقد سألته بعدما بللت زخات المطر بعض اجزاء معطفي الاسود الذي كنت ارتديه تأهبا للوقوف في الصداره لاستقبال من يقدم واجب العزاء وهكذا حالي مع اقاربي الذين يفتخرون امام الناس بأبنهم البندري ، ولكن هناك عشر ا سوف يكملون مسيره السائق المتصابي، وانفصلت عن مراقبه الطريق الممطر وتوجهت بنظري الي المرأه العاكسه اراقب احوال العشره الباقين ، فوجدت اخر مقعدين وبهم خمسه اشخاص يتفحصون شاشات الموبايل وقد داهمهم صمت عظيم وبدا عليهم سكونا يشبه سكون المقابر ، اما الخمسه الاخرين فانقسموا قسمين ،، اثنين منهم جلسوا يراقبون الطريق واثنين اخرين ملتحين ، تولوا القراءه في المصحف بصوت خفيض، تتسرب من جلودهم رائحه المسك الثقيل الذي يعضد الاختناق ويُكبل الصدرور بالضيق بعدما اغلقت الابواب ووصدت النوافذ كي لاينفذ ماء المطر منها فيصيب الركاب باللبلل،اما المستقل العاشر الذي يقع مقعده مباشره في ظهر مقعدي فحدث عنه ولايصيبك منه الحرج، لانه لايعرف عن الحرج شيئا، فصوته العالي في هاتف الموبايل طوال الطريق لم ينقطع البته منذ ان تحركت السياره ، وخلال مكالماته التي يسمعها للجميع ، تبين طبيعه عمله ، واول مره لا اجد لطبيعه العمل مسمي، فهو بتاع كله ، المكالمه الاولي عمل فيها طبيبا يوصي فيها امه وزوجته عن تناول الادويه في الميعاد المضبوط ، ثم يلقي بالكره في النهايه في حجر اهمالهم ويصرخ فيهم :
انا كاتب لكم الدوا ومواعيده ' لما الاستفزاز وعدم سماع الكلام !
المكالمه الثانيه عمل فيها سباكا للادوات الصحيه ،ينتقد شغل السباك علي الهواء مباشره عن طريق الهاتف :
انا مش قلتلك ياحمار الحنفيه عايزه جلده فقط ، حتغيير خلاط الميه ليه ، انتظرني في مكانك بالحمام سوف اصل اليك بعد ساعه زمن !
المكالمه الثالثه استمرت طويلا وفيها استخلصتُ طبيعه عمله بسهوله ، بعدما تعددت بها الاسماء ، انه يمارس عمله عن بعد كمصلح اجتماعي ، والرابعه كان يتكلم فيها مع شخص عن كيفيه استخراج رخص البناء وكأنه مهندس حاذق ، امام المكالمه الخامسه الذي عمل فيها فلانتينوا فلم استطيع تمييز كلامها المضغوم الهامس التي تحيطه المواربه من كل جانب، تلكم المكالمه التي عكر عليه السائق فيها مزاجه حين طلب منه خصيصا ان يعمل صبي سائق ويجمع الاجره من الركاب، فرمقه بحنق ثم انهي المكالمه سريعا وصاح في الركاب : الاجره ياخونا حمدا لله علي السلامه، كان غريبا علي والركاب ان يطلب السائق جمع الاجره قبل ان يصل الي مكان انتهاء الرحله بنحو نصف ساعه ، ولكنه اراد اثِناء اخينا وكمم فمه عن الحديث في الهاتف حتي ينشغل في عمل أخر غير الكلام.