خالد درة يكتب : بالعقل أقول…( فرنسا ” الماكرونية ” والتأرجح بين اليمين واليسار ..)
الجارديان المصريةأمضى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حتى اليوم واحداً وخمسين يوماً ، حتى توصل الى اتخاذ قراره بتعيين ميشال بارنييه رئيساً للحكومة ، بعد قبوله استقالة حكومة غبريال أتال .. مسافة زمنية وُصفت في فرنسا بأنها "غير مسبوقة" في "الجمهورية الخامسة" منذ تأسيسها على يد الجينرال ديجول ..
حاليّاً ، تتكرّر هذه السابقة في تشكيل الحكومة .. فسابقاً كانت عملية تسمية رئيس الحكومة وتشكيلها وانعقاد أول جلسة لمجلس الوزراء تستغرق كلها ، أسبوعاً واحداً على الأكثر .. حتى تاريخه ، أمضى ميشال بارنييه أسبوعاً كاملاً من دون أن يشكّل حكومته .. فترة يُتوقع لها أن تمتد أكثر!..
في الواقع ، هذه الأرقام القياسية في الحياة الدستورية الفرنسية ليست سوى عوارض طبيعية لما انتهت اليه الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعا إليها ماكرون ، بعد انتصار كاسح لحزب "التجمع الوطني" بزعامة مارين لوبن في انتخابات البرلمان الأوروبي .. بحلّه الجمعية الوطنية التي كان يشكّل فيها "المعسكر الرئاسي" الأكثرية النسبية ، وجدت فرنسا نفسها أمام "مجلس نيابي" مشتت : فالأكثرية النسبية "الضئيلة" انتقلت الى "الجبهة اليسارية الجديدة"، فيما توزعت القوى الحزبية الأخرى الى أقليّات "طموحة"، إذ إنّ كل واحد من زعماء هذه الأقليات يتطلّع الى خوض الانتخابات الرئاسية المقرّرة في ربيع 2027. أوّل المتقدمين الى السباق هو حليف ماكرون "الصعب"، إدوار فيليب الذي كان قد شكّل أولى حكومات الولاية الماكرونية الأولى بانتقاله من "حزب الجمهوريين" الى "الوسط الرئاسي"..
عندما دعا ماكرون إلى هذه الانتخابات التشريعية المبكرة لم تكن "الخطة الدفترية" تتوقع هذا التشتت في التمثيل النيابي .. كان يريد أن تؤدي هذه الانتخابات المبكرة إلى ضرب "التجمّع الوطني" من خلال وضع نهاية لـ"سردية الإنتصار" التي من شأنها ، لو استمرت وتفاعلت ، أن تمكّن مارين لوبن في الانتخابات الرئاسية الى العبور على "حصان أبيض" الى قصر الإليزيه .. وكان يعتقد أنّ "المعسكر الرئاسي" سوف يستفيد من تشتت "اليسار" وخلافات تياراته ، لا سيّما تلك التي تفصل حزب "فرنسا الأبية" بزعامة جان لوك ميلانشون عن "الحزب الاشتراكي"، الأمر الذي يعيد الى "المعسكر الرئاسي" الأكثرية في دورة الاقتراع الثانية ، بفعل "الجبهة الجمهورية" التي طالما تشكّلت عندما شعر الناخب والأحزاب ، بإمكان وصول "الجبهة الوطنية" المحسوبة على اليمين المتطرّف الى السلطة ..
لكنّ " الحسابات تغيرت " و لم تتطابق أبداً مع "حسابات التوقعات ".. فقد انتقلت الأكثرية النسبية الى "الجبهة اليسارية الجديدة"، التي استفادت هي من "الجبهة الجمهورية" التي تشكّلت ضدّ "التجمع الوطني".. فقد رفض ماكرون التعاطي مع هذه النتيجة كما لو كانت حتمية دستورية تفرض عليه أن يتعايش مع مجموعة سياسية يبرز فيها جان لوك ميلانشون وتحمل مشروعاً هدفه الأساس ضرب "إنجازات الرئيس".. و أعانت الخصومات السياسية ماكرون على تجاوز "كلمة صناديق الإقتراع"، بحيث بيّن ، من خلال استشاراته ، أنّ حكومة يسارية برئاسة لوسي كاستيه التي رشحها "التجمّع اليساري" لترأس الحكومة ، أن لا يمكن أن تصمد يوماً واحداً أمام الجمعية العمومية ، لأنّ الأكثرية الساحقة من النواب سوف يسحبون الثقة منها في أول جلسة برلمانية ، إذ أعربت جميع القوى غير اليسارية عن نيتها إسقاط الحكومة اليسارية في حال تشكّلت .. ورفض اليسار الفرنسي إعطاء فرصة لشخصية تنتمي إليه ولكنها ليست ضمن تجمعه العريض ، فسقط خيار برنار كازينوف .. وحينها مال ماكرون إلى اليمين ، وبحث عن شخصية "توافقية" فكان ميشال بارنييه ، صاحب السجل العريق من التجربة العريضة ، سواء في فرنسا أم في الاتحاد الأوروبي ، خصوصًا أنّه نجح في إدارة "عقد الطلاق" الأوروبي - البريطاني ، بعد قرار "البريكسيت" الشهير بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ..
المفاجأة في ما أقدم عليه ماكرون ، تمثلت في استعانته بـ"الجبهة الوطنية" برئاسة لوبن لتوجيه ضربة إلى "الجبهة اليسارية الجديدة" في المسألة الحكومية ..
ففي الدورة الانتخابية الثانية ، كان ماكرون قد استعان بـ"الجبهة اليسارية الجديدة" لضرب "التجمع الوطني".. وبهذا ، بدا لافتاً أنّ من تواطأ ضدّه ماكرون قبل 60 يوماً من تعيين بارنييه عاد وتواطأ معه مرة أخرى !..
و في ظل هذه المعادلة المعقّدة التي يقف ماكرون وراءها يعمل بارنييه ، حاليّاً .. وفيما "الجبهة اليسارية الجديدة" تعارضه وتلوّح له بسلاحي ( سحب الثقة فى البرلمان و تهييج الشارع ضده )، لا يبدو أن اليمين والوسط مستعدان للذهاب بعيداً في التورط معه .. فالجميع يضعون في حساباتهم مسألتين مهمّتين : انتخابات مبكرة جديدة ، بعد مرور سنة على الانتخابات التي أُجريت في تموز (يوليو) الماضي ، والانتخابات الرئاسية ..
و بالنسبة الى جميع القوى السياسية ، قد تؤدي تغطية خطة ماكرون من خلال التورط في خيار بارنييه إلى خسارة مزدوجة ، في ظل استياء فرنسي من الأوضاع ، خصوصاً أنّ وضعية الحالة الإقتصادية و المالية العامة في فرنسا تقتضي لتصحيح انحرافاتها الخطرة ، و اتخاذ خطوات غير شعبية ..
في الواقع … أنّ الرئيس الذي قدّم نفسه للعالم "منقذاً" من الأزمات ، أغرق بلاده ، بحسابات مرتجلة ، في أخطر أزماتها على الإطلاق ..
فثمة من يعتقد أنّ ماكرون بدل أن ينقل إلى لبنان التجربة الفرنسية نقل إلى فرنسا التجربة اللبنانية .. ففي لبنان "تواطأ" مع المجتمع المدني من أجل "تليين" الطبقة السياسية ومن ثم تواطأ مع الطبقة السياسية لاحتواء المجتمع المدني ، فأخمد ثورته المحقة .. بالنتيجة خسر لبنان نفسه!..
و الفارق الجوهري بين واقعي لبنان وفرنسا ، أنّ لبنان لا مؤسسات فيه قادرة على "الحدّ من الخسائر".. أما في فرنسا ليست الحال كذلك ، حيث تستطيع "دولة المؤسسات" أن تمرّر هذا "السيرك السياسي" الذي هنْدسه "البهلوان" إيمانويل ماكرون ، بأقل أضرار ممكنة ! للخروج من أزماته السياسية التى تسبب فيها ﻭ أدخل البلاد في نفق سياسي مظلم لا يعلم أحداً كيف الخروج منه .