حسين السمنودى يكتب : بيت لاهيا .. جرحٌ نازفٌ في جسد غزة وضمير العالم الغائب
الجارديان المصريةشهدت غزة على مرّ عقود مضت مآسي إنسانية وجروحًا لا تندمل، لكن ما جرى صباح اليوم في بيت لاهيا يشكّل علامة فارقة في مسلسل القسوة والوحشية الذي طال أهل غزة. في واحدة من أبشع المجازر التي ترتكب ضد المدنيين، راح ضحيتها أكثر من 140 شهيدًا من أبناء بيت لاهيا، ليصبح هذا العدوان عنوانًا جديدًا للعذاب المستمر والمعاناة. وكأنما كُتب على هذه البلدة، مثل غيرها من مناطق القطاع، أن تعيش العذاب المتجدد كلما لاحت أزمة أو أُشعل نزاع. الضربات الموجهة لبيت لاهيا ليست مجرد قنابل تُسقط على الأبرياء، بل هي سياسة تستهدف بوضوح دفع الفلسطينيين لمغادرة ديارهم وتوسيع دائرة تهجيرهم نحو المجهول. ويتزايد شعور أهالي غزة بأن هناك من يسعى لإخلائهم قسريًا ودفعهم إلى منافٍ، لتصبح خطة تهجيرهم نحو الحدود مع مصر واقعًا يوميًا متجددًا.
الاستهداف المكثف للبيوت والبنى التحتية في غزة يعكس مدى التواطؤ الدولي، حيث لا يكتفي المجتمع الدولي بالصمت، بل يغض الطرف عن عشرات المجازر التي تستهدف الأطفال والنساء وكبار السن. هذا التجاهل يزيد من صلابة الفلسطينيين في غزة وتمسكهم بحقهم في البقاء فوق أرضهم، رغم شبح الموت الذي يلاحقهم في كل مكان، سواء في المدارس التي تحولت لملاجئ، أو في المستشفيات التي لم تعد قادرة على استيعاب الجرحى أو حتى توفير أبسط خدمات الحياة. إنّ صور الأطفال المصابين والجرحى النازفين هي لوحات معاناة تخترق كل الضمائر، لكنها على ما يبدو لم تحرك الضمير العالمي.
ومع تكرار المجازر، تتعاظم الكارثة الإنسانية في غزة، حيث باتت كل مدينة وقرية تواجه أسوأ كارثة إنسانية عرفتها عبر تاريخها. المدارس، التي لجأ إليها السكان هربًا من القصف، لم تسلم هي الأخرى من هذه الغارات. المستشفيات كذلك مهددة وعاجزة، في ظل شُحّ الإمكانيات ونقص الأدوية والمعدات الطبية، وأصبحت المشاهد اليومية لأهالي غزة، الذين يبحثون عن لقمة عيش وأمان لأطفالهم، مشاهد لا يمكن للعالم تجاهلها.
القضية ليست في أحداث عابرة أو في عدوان يقتصر على أيام أو أسابيع، بل في سياسة واضحة تهدف إلى اقتلاع الناس من جذورهم وتغيير الواقع الديموغرافي لقطاع غزة. تتردد منذ سنوات خطط تستهدف تهجير الفلسطينيين نحو سيناء، ونجد أن ما يجري الآن هو محاولة فعلية لجعل هذه الخطة واقعًا، حيث لم يعد هناك مكان آمن في غزة، ولا أمل في استقرار يقي الأهالي من المآسي التي تُحدق بهم. التدمير الكامل لكل مظاهر الحياة هو رسالة واضحة لأهالي غزة: مغادرة أرضكم هي السبيل الوحيد للنجاة.
الإنسانية تحتضر في بيت لاهيا، وجدران البيوت هناك تشهد على قسوة لم يشهدها العالم من قبل. جثث الشهداء في شوارعها هي قصائد حية عن تضحية وبطولة في مواجهة قوة غاشمة تظن أن الحق يُمحى بالنار، لكنّ صمود أهالي غزة وإصرارهم على البقاء في أرضهم يشكلان الرد الأكبر والأكثر عمقًا على هذا العدوان. ورغم كل محاولات التهجير، سيبقى أهل غزة في أرضهم، حاملين قصصًا من البطولة والعزة والصمود، حتى وإن خذلهم العالم، وظل الضمير الغائب غارقًا في صمته المخزي.