الدكتور البروفسور حسين التكمه جي تكتب : مسرح الشارع بين العرض وسيكولوجية الجمهور


لا يختلف المسرحيون بأن مسرح الشارع لم يكن مستحدثا البتة، إنما تنحصر جذوره التاريخية عند الإغريق من خلال الأغاني العنزية والاحتفالات الدنيوسوسية الدينية في الشوارع، اثناء أعياد ولادة الاله دنيوسوس، ولعل هذا التاريخ يحدد مسبقا أن المسرح ولد في الشارع أي بالهواء الطلق.
إلا ان المسرحيين وجدوا ضالتهم بعد حين في مسرح الشارع، إرضاء للجمهور بعدما سحبت السينما جمهور المسارح نحو صالات السينما، إذ ان السينما ألهبت الجماهير بسحر المشاهدة، حينها وجد كل من (الموسيقار موريس بيجار والممثل جان لوي بارو) بأن يذهبوا هم بالعرض الى الجمهور بدلا من أن يحضر الجمهور للمسرح المغلق، فظهر تيار مسرحي جديد دعي بـ (المسرح الشامل) والذي جمع بين الموسيقى والرقص والأداء بعيدا عن مسرح العلبة وتوجها نحو مناطق التجمع في فرنسا.
وعلى وفق هذا التيار بدأت العديد من الفرق المسرحية تتلمس الطريق نحو هذا الاتجاه، فبدلا من يأتي الجمهور الى المسرح باتت اليوم تؤكد بأن يذهب المسرح نحو الجمهور، ولعل ذلك قد قدم أسلوبا جديدا اعتمد على العديد من الخصائص منها: ـ
1. تفعيل دور الابتكار والصامت
2. أدخال عناصر كالموسيقى والرقص والمرونة الجسمانية في العرض
3. الهروب من قبضة الرقيب
4. الاقتصاد بالمنظر المسرحي والاعتماد على مفردات ديكوريه بسيطة
5. تفعيل دور الفكرة بالبساطة في التكوين
6. البحث عن أماكن وبيئات مختلفة لتقديم العرض
7. تفعيل دور الحميمية والتشاركية بين المؤدي والمتلقي
لذا وجد الكثيرين من المسرحين أنفسهم تواقين بهذا التوجه حتى اتساع رقعة المشاركة وبالمقابل اتسعت حركة تنشيط هذا الاتجاه، ولذات السبب الفنا تقديم عروض في الشوارع والحدائق العامة والأسواق ومناطق التجمع والكراجات وحتى الريف والمقاهي والمتنزهات العامة ومراكز التسوق . ومن هنا أصبح المتلقي مجبرا على تلقي العرض دون قطع تذكرة أو تقديم دعوة، إذ أن ما كان يشاهده هو ما يهتم بمشكلاته الإنسانية أو الاقتصادية ومعاناته اليومية وحتى السياسية، تلك المباشرة المفتوحة في الفضاء المفتوح بين العرض والمتلقي اصبح لها حضور فكري ومعنوي وأنساني يمس ضمير ومشاعر المتلقي فتعمقت بذلك المشاركة الوجدانية بين طرفي العلاقة، (المسرح وجمهوره).
ولعل هذا الحضور قد شكل مستقبلا قيام تظاهرات فنية ومهرجانات مسرحية تخص بالذات هذا النوع من المسارح، والتي أزعم على اعتبارها جميعا محصورة في مسارح الهواء الطلق. لقد كان لحضورنا الثقافي في مثل هذه المهرجانات المسرحية في بغداد وكركوك بوصفها تخطت المحلية الى العالمية وشملت مشاركات لعدة فرق محلية بحجم الفرق وعد المشاركين ، مما دفع الكثير من الباحثين والكتاب والنقاد والمعنيين في المسرح لدراسة هذه الظاهرة ، مما أسفر عن كتب قيمة ودراسات بحثية اكثر علمية لطلبة الماجستير والدكتوراه ، فضلا عن تلك البحوث التي تناولت تلك المفاهيم والآراء النقدية لفك الاشتباك بينها وتحديد خصوصية التعريفات الإجرائية لها ، فقد وفرت فرشة كبيرة لتجاوز السلبيات وتحقيق أعلى قدر من الإيجابيات .أقف يوما تحت مفهوم تحديد المشكلات، فوضعت يدي على أهمها لتوكيد تجاوزها من قبل بعض الفرق المسرحية والتي تقدم عروضها ضمن هذا البناء الثقافي لمسرح الشارع، يمكن حصرها كالاتي: ـ
اذ ينبغي أن ندرك مسبقا سيكولوجية الجمهور ، بوصفها الجانب الأهم في عملية التلقي خصوصا في الشارع ، فالجمهور متنوع الثقافات وكذلك متنوع الأذواق والمشارب ,ولعله لا يعطي اهتماما بالغا بأهمية أن يأتي العرض إليه لا كما يذهب هو إليه ، ولعل البعض من انصاف المثقفين أو طلبة الجامعات وجدوا بأن المشاهدة للعرض لا تتعدى سوى السخرية من العرض او من المؤدين ،كما لم يتمتع بالإصغاء للعرض لفهم الفكرة والمغزى ، ومما يزيد الطين بله كثرة التعليقات الساخرة والمهينة أحيانا وكأن العرض مجرد لهو ولعب وتسلية او عرض سرك حتى يشبع غرائزه بالمتعة الحسية دون المتعة الفكرية ،هذا للمتلقي نصف المثقف فما حالك بالمتلقي متدني الثقافة، فربما تجد ردود فعل البعض استفزازي للعرض او محاولة اظهار الذات بشكل ساذج ومؤذي ، وبالمقابل وجدت أن الأطفال اكثر حميمية للعرض بل اكثر تشاركية من الكبار فقد شارك بعضهم في توليدية مستدامة لحيثيات الفكرة واشغل المؤدين بصيغ التعامل بالابتكار من الحالة الطارئة الأن وهنا ، وهذا ما يسعى إليه مسرح الشارع .
ليس المهم في مسرح الهواء الطلق أن تقدم العرض، بل المهم أن توصل الفكرة والموضوع، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال تنظيم حيثيات العرض من قبل المخرج أولا ثم الممثل ثانيا، فالحلقات ينبغي أن تكون مترابطة ومتراصة وغير مفككة تشد المتلقي وتجبره على التواصل. لا أن يكون العرض مجرد لفظ صوتي دون معنى ولا اثارة ولا دهشة.
إذ ينبغي للعاملين في مسرح الشارع أن يلتزموا بالقواعد التالية لنجاح العرض
1. تطوير قدرات الممثل الصوتية لدفع الصوت لأكبر عدد من المتلقين، دون أن يتأثر صوته بالحشرجة والبحة الصوتية.
2. سيطرة الممثل على العرض بين جمهور يلتف حوله ويضيق عليه خناق المسافة.
3. ان للصوت أهمية بالغة في القوة والشدة والنبر بوصفه القوة التي يسيطر بها الممثل على توضيح الكلمات والحوار، فكلما أرتفع مستوى الصوت وقوته سيطر الممثل على مجريات العرض ذلك ان الصوت يعد قوة تركيز مهمة تجبر المتلقي الى منطقة السيطرة عليه والاصغاء لما يقدم.
4. ان كثرة اللغط بين الجمهور يعود لعدم السيطرة على الإيقاع، فحين يفلت الإيقاع يصاب العرض بالتردي
5. ولعل تمارين الصوت والألقاء في الهواء الطلق وتدريب الحنجرة تساهم بعدم ضعف الصوت باستمرارية العرض والحشرجة الصوتية والبحة التي من شانها إيقاف عمل الصوت في انتاج الكلمات والمعنى بسيطرة المؤدي على ادواته
6. عدم استخدام الموسيقى المرافقة مع العرض كونها عنصر معيق جدا في الاستماع والأصغاء، وتحديد استخدامها في مقدمة العرض بوصفها تسحب المتلقي الى منطقة العرض وتجبره على الأصغاء.
7. على المخرج والممثل سد الثغرات المتوقعة كردود فعل من الجمهور عن طريق الاسترخاء التام والحضور الفعلي والقدرة على التنظيم بحيث نجعل المتلقي مشدودا للعرض بالكلية.
8. المحافظة على التنامي الايقاعي للوحدات الإيقاعية في التسارع وضبطها، ذلك من شأنه أن يحفظ مستوى التوتر وعدم هبوط العرض.
9. لذا وجب أن يؤخذ ذلك في المؤتمرات المرافقة لمسرح الشارع بعين الاعتبار، عسى أن تحقق هذه المفاهيم قدرا عاليا في بناء وحدات العرض وبناء الشخصية في السيطرة التامة لمجريات العرض طيلة زمنه المقرر.