حسين السمنودى يكتب: عمال التراحيل والسخرة واقع مرير وأمل بعيد المنال


منذ نشأة الحضارات، كان هناك دومًا من يكدّ ويتعب في الظل ليحصد الآخرون المجد والشهرة في النور. هؤلاء هم عمال التراحيل والسخرة، الشريحة الأكثر بؤسًا في أي مجتمع، ممن حُرموا من الكلمة والقرار، ودُفعوا دفعًا إلى ساحات العمل الشاق القاسي، تحت الشمس الحارقة أو في قلب الصقيع، بأجور هزيلة أو دون أجرٍ على الإطلاق، وحقوق مسلوبة، وأوضاع مأساوية تتكرر بصور مختلفة من عصر إلى آخر.
ارتبط مفهوم السخرة في ذاكرة المصريين بأبشع النماذج التاريخية، وفي مقدمتها حفر قناة السويس، حين جرى تجنيد نحو مليون فلاح مصري بالقوة الجبرية في منتصف القرن التاسع عشر، تحت إشراف الإدارة الفرنسية وبتواطؤ من الحكم العثماني. كانت القرى تُفرغ من رجالها، يُقيدون بالسلاسل، ويُساقون إلى مواقع الحفر حاملين الفؤوس والمجاريف، وسط ظروف معيشية مزرية. مات عشرات الآلاف منهم جوعًا ومرضًا وقهرًا، ودُفنوا في صمتٍ بلا صرخات، في رمال لا تذكرهم، ومياه تمر فوق عظامهم، دون أن يعرفهم التاريخ أو يذكرهم الإعلام.
ولم تكن هذه المأساة الوحيدة، فقد شُقّت ترع، وبُنيت سكة حديد، وتحصنت قلاع، وشُيدت قصور ومصانع وسدود، على أكتاف رجال لم يكن لهم إلا التعب والإهانة، ورحيلٌ من الحياة بصمتٍ يشبه قدَرهم. وعلى الرغم من أن الزمن تغير وتقدمت الحضارات، إلا أن هذه الأوضاع لم تندثر، بل أعادت إنتاج نفسها بأشكالٍ جديدة تحت مسميات أكثر رقة، منها "عمال اليومية" أو "عمال التراحيل"، لكنها تحمل نفس الوجع القديم.
في العصر الحديث، لا يزال الآلاف من عمال التراحيل يصحون قبل الفجر، يركبون سيارات نقل متهالكة، لا يعرفون إلى أين يذهبون، ولا ماذا سيكسبون. يُنقلون كما تُنقل البضائع، يعملون بلا ضمان، ولا تأمين صحي، ولا عقد عمل، ولا حمايات قانونية. بين الحقول ومواقع البناء ومصانع الطوب، يشقون طريقهم إلى الرزق، بينما تطاردهم البطالة في كل لحظة، وتنتظرهم الإصابة في كل خطوة، ويُخيّم عليهم شبح الفقر الدائم.
وليس الرجال وحدهم من يدفعون الثمن، فالنساء أيضًا جزء من هذا القدر البائس. نساء يحملن أطفالهن في الحقول، يجلسن في الطين، ويقطفن المحاصيل تحت الشمس أو البرد، دون أي حماية من تحرش أو إهانة أو مرض. أما الأطفال، فهم الأكثر قهرًا، يُزج بهم في سوق العمل وهم لم يكملوا العاشرة، يحملون الطوب، أو يلمّون القطن، أو يقفون في ورش مهددة بانفجار أو انهيار، فقط ليساهموا في قوت عائلة لا تجد مأوى أو فرصة أخرى.
الدولة في كثير من الأحيان كانت غائبة أو متواطئة، تقنن الاستغلال، أو تتجاهل المأساة، أو تغض الطرف عن الانتهاكات. لا توجد رقابة حقيقية على أصحاب الأعمال، ولا تطبيق فعال لقوانين العمل، ولا إرادة واضحة لدمج هؤلاء في منظومة عمل تحمي كرامتهم. الإعلام بدوره كثيرًا ما يكتفي بتقارير موسمية، سرعان ما تختفي تحت ضجيج السياسة والكرة والشائعات، بينما العامل البسيط يواصل معركته مع الحياة، وحيدًا، أعزلًا.
ورغم كل هذا القهر، لا يزال الأمل يسكن في عيون هؤلاء. أمل أن يُسمع صوتهم، وأن يشعر أحد بوجعهم، وأن تُكتب لهم قوانين تُطبّق، لا تُجمل بها التقارير. أمل في أن يُنشأ لهم نظام تأمين شامل، وتُبنى نقابات تمثلهم، وتُراقب شروط عملهم، ويُفرض حد أدنى للأجر يكفي العيش بكرامة. كما أن الاعتراف الحقيقي بدورهم في بناء الوطن هو بداية الإنصاف، لا ببيانات رسمية، بل بإجراءات عملية على الأرض.
عمال التراحيل والسخرة هم من رفعوا هذا الوطن حجراً فوق حجر، وسقوا أرضه بعرقهم، وبنوا تاريخه بتضحياتهم. ومع ذلك، ما زالوا الحلقة الأضعف، والأقل حظًا، والأكثر إنكارًا. كرامة الأمة تبدأ من كرامة هؤلاء، وإنصافهم ليس منّة بل فرض تأخر كثيرًا. وإذا لم نرفع عنهم الظلم الآن، فمتى إذن يكون العدل؟