الإثنين 18 أغسطس 2025 11:05 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. نهال أحمد يوسف تكتب : حب اللحظة الأخيرة

د. نهال أحمد يوسف
د. نهال أحمد يوسف

في لحظات الخطر، تتجلى أعظم صور الفطرة الإنسانية، وتسمو التضحية لتضيء القلوب. لقد شاهدنا جميعاً كيف تتسارع قلوب الآباء والأمهات، أو الأخوة والأخوات، نحو الخطر لإنقاذ جزء من أرواحهم، حتى لو كان الثمن حياتهم. حادثة مدير التصوير تيمور تيمور، الذي دفع حياته لإنقاذ روح ابنه، تبقى تذكرة قوية ومؤثرة لهذه الفطرة العميقة. هذه الوقائع، التي تتكرر بأشكال مختلفة حول العالم، حيث يهرع الأب أو الأم لإنقاذ طفل، أو الأخ لنجدة أخيه، حتى يلاحقوا حتفهم، هي شهادات على الحب النقي غير المشروط.
ولكن، يبدو أن المفاهيم قد اختلطت علينا بشكل مؤسف، لدرجة أننا أصبحنا نرى هذه الفطرة الطبيعية، هذا الاندفاع الغريزي لحماية من نحبهم، وكأنه قدرة عظيمة على التضحية تتجاوز المعتاد. ما هو في جوهره فعل فطري بديهي، أصبح يُذكر كنموذج فريد للشجاعة. هذه التضحيات العظمى، وإن كانت تستحق كل التقدير والتذكر، تثير سؤالاً جوهرياً: إذا كانت هذه الفطرة تظهر بقوة في لحظات الخطر القصوى، فلماذا لا نراها تتجلى بنفس الوضوح في تفاصيل حياتنا اليومية؟ هل ننتظر أن تدهمنا الكوارث لنكتشف عمق مشاعرنا ونظهرها؟ أم أننا نعيش في غفلة عن حقيقة أن الحب الحقيقي يكمن في التفاصيل الصغيرة والجهد المستمر؟
ربما حان الوقت لمراجعة مواقفنا أيها الآباء والأمهات، في الأجيال الحالية أو السابقة، وتقييم علاقاتنا بأبنائنا. إن مثال تيمور تيمور، أو أي أب أو أم ضحى بحياته من أجل فلذة كبده، هو دليل قاطع على أن الفطرة تعلو كل شيء في أن تنقذ جزءاً منك. إنها صرخة غريزية تنبع من أعماق الروح للحفاظ على استمرارية الذات عبر النسل. لكن، هل تُظهرون هذه الفطرة وهذا الحب الغريزي في علاقاتكم اليومية معهم؟ كم من آباء لا يبرون بأولادهم، ويعاملونهم بقسوة أو إذلال، أو يفشلون في إظهار الحب والطبطبة والحرص على تنشئتهم سليمين نفسياً، وليس فقط مادياً؟ فالاكتفاء بتوفير الماديات، وإن كان ضرورياً، لا يغني أبداً عن الدفء العاطفي والحضن الدافئ والكلمة الطيبة.
أبناؤكم بشر، وليسوا أشياء تُقدم لها الطعام والشراب فقط. هم في أمس الحاجة للحب أولاً، والطبطبة كثيراً، والحنان طول الوقت، حتى رغم الأخطاء والكوارث التي قد يرتكبونها. هذه الحنية الدائمة، وهذا الاحتواء العاطفي، هو ما يبقى في ذاكرتهم طول الحياة، ويشكل شخصياتهم أكثر بكثير من تلبية الاحتياجات المادية وحدها. يُعد الحب غير المشروط، الذي يتجاوز حدود الخطأ والصواب، الركيزة الأساسية لنموهم النفسي السليم. هم بحاجة إلى أن يشعروا بأنهم مقبولون ومحبوبون لذاتهم، لا لما يقدمونه أو يحققونه. هذا الشعور بالأمان العاطفي يبني ثقتهم بأنفسهم ويقوي روابطهم الأسرية، مما يجعلهم أفراداً أكثر استقراراً وقدرة على العطاء في المستقبل.
وغِياب هذا الحب والدعم العاطفي اليومي قد يخلف ندوباً عميقة لا تندمل بسهولة. فالإذلال والكلمات القاسية تُبنى عليها أسوار نفسية عالية، تمنع الأبناء من الانفتاح والتعبير عن مشاعرهم، وربما تدفعهم بعيداً عن أهلهم في لحظات الحاجة. تذكروا أن كل طفل هو أمانة، ومسؤوليتنا ليست فقط في تغذيته وكسوته، وإنما هي في بناء روحه وعقله وقلبه. العناية النفسية لا تقل أهمية عن العناية الجسدية، وقد تفوقها تأثيراً في المدى الطويل.
اتقوا الله فيهم، وفي أنفسكم، وفي يوم تصبحون فيه في سن الضعف وتحتاجون لهم. ربما تمنعهم ذكريات المعاملة السيئة، أو الإذلال، أو غياب الحب الصريح، من أن يأتوا إليكم للحظة. ليس من الضروري أن يروا هذا الحب فقط في لحظات الخطر، والأهم أن يشعروا به في كل يوم، وفي كل كلمة، وفي كل لمسة حانية. رحم الله تيمور تيمور، الذي جعله الله تذكرة لنا جميعاً كآباء وأمهات أنه يجب أن نحب أولادنا ونراعيهم طول الوقت ونقول لهم بصدق "نحبكم". ربما لا يكون هناك غد لنفعل ذلك.

د. نهال أحمد يوسف حب اللحظة الأخيرة الجارديان المصرية