الكاتب الصحفي الحسيني عبد الله يكتب: إستدعاء الروح


تحتفل مصر بمرور اثنين وخمسين عامًا على انتصارات السادس من أكتوبر عام 1973.
ورغم مرور ما يزيد عن نصف قرن، نستطيع أن نقول وبكل فخر إن المعارك ما تزال مستمرة، وإن روح أكتوبر ما زالت تنبض بالحياة. فبعد انتهاء حرب أكتوبر وتحقيق نصر نفتخر به جميعًا، مضت مصر في معارك البناء والتنمية في السنوات الأخيرة. ومنذ تولي الرئيس السيسي مقاليد الأمور في منتصف عام 2014، شهدت مصر طفرة تنموية غير مسبوقة على كافة الأصعدة وفي كل المجالات.
أما عن المعارك الحربية في أكتوبر 1973 فقد حقق المقاتل المصري ملحمة من الانتصارات بشهادة العالم أجمع، العدو قبل الصديق، وحطم أساطير طالما تغنّى بها الأعداء، وهي أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر».
وهو ما جعل «ناحوم جولدمان» رئيس الوكالة اليهودية الأسبق يكتب عن حرب أكتوبر في كتابه «إلى أين تمضي إسرائيل»:
إن من أهم نتائج حرب أكتوبر 1973 أنها وضعت حدًا لأسطورة إسرائيل في مواجهة العرب، كما كلفت هذه الحرب إسرائيل ثمنًا باهظًا حوالي خمسة مليارات دولار، وأحدثت تغيرًا جذريًا في الوضع الاقتصادي في الدولة الإسرائيلية، التي انتقلت من حالة الازدهار التي كانت تعيشها قبل الحرب ـ رغم أن هذه الحالة لم تكن ترتكز على أسس صلبة كما ظهر ـ إلى أزمة بالغة العمق كانت أكثر حدة وخطورة من كل الأزمات السابقة.
غير أن النتائج الأكثر خطورة كانت تلك التي حدثت على الصعيد النفسي؛ لقد انتهت ثقة الإسرائيليين في تفوقهم الدائم، كما اعترى جبهتهم المعنوية الداخلية ضعف هائل، وهذا أخطر شيء يمكن أن تواجهه الشعوب، وبصفة خاصة إسرائيل. وقد تجسد هذا الضعف في صورتين متناقضتين أدّتا إلى استقطاب إسرائيل على نحو بالغ الخطورة؛ فمن ناحية كان هناك من بدأوا يشككون في مستقبل إسرائيل، ومن ناحية أخرى لوحظ تعصب وتشدد متزايد يؤدي إلى ما يُطلق عليه اسم عقدة «الماسادا» – القلعة التي تحصّن فيها اليهود أثناء حركة التمرد اليهودية ضد الإمبراطورية الرومانية، ولم يستسلموا وماتوا جميعًا.
وفي كتاب «الأيام المؤلمة في إسرائيل» للكاتب الفرنسي جان كلود جيبوه يقول:
في الساعة العاشرة وست دقائق من صباح اليوم الأول من ديسمبر أسلم ديفيد بن جوريون الروح في مستشفى «تيد هاشومير» بالقرب من تل أبيب. ولم يقل بن جوريون شيئًا قبل أن يموت، غير أنه رأى كل شيء. لقد كان في وسع القدر أن يعفي هذا المريض، الذي أصيب بنزيف في المخ يوم 18 نوفمبر 1973، من تلك الأسابيع الثمانية الأخيرة من عمره، ولكن القدر كان قاسيًا؛ ذلك أن صحوته في أيامه الأخيرة جعلته يشهد انهيار عالم بأكمله، وكان هذا العالم هو عالمه. لقد رأى وهو في قلب مستعمرته بالنقب إسرائيل وهي تنسحق في أيام قلائل نتيجة زلزال أشد وحشية من حرب رابعة، ثم راح يتابع سقوط إسرائيل الحاد، وهي تهوي هذه المرة من علوّها الشامخ الذي اطمأنت إليه، حتى قاع من الضياع لا قرار له.
فهل كان الرئيس المصري أنور السادات يتصور، وهو يطلق في الساعة الثانية من السادس من أكتوبر دباباته وجنوده لعبور قناة السويس، أنه إنما أطلق قوة عاتية رهيبة كان من شأنها تغيير هذا العالم؟ لقد تغيّر كل شيء، من أوروبا إلى أمريكا، ومن إفريقيا إلى آسيا، ولم يبقَ شيء على حاله منذ حرب يوم الغفران.
وجاء في كتاب «زلزال أكتوبر: حرب يوم الغفران» للمؤرخ العسكري الإسرائيلي زئيف شيف:
إنها أول حرب للجيش الإسرائيلي يعالج فيها الأطباء عددًا كبيرًا من الجنود المصابين بصدمة القتال، ويحتاجون إلى علاج نفسي. هناك من نسوا أسماءهم، وكان يجب تحويلهم إلى المستشفيات. لقد أذهل إسرائيل نجاح العرب في المفاجأة، وفي تحقيق انتصارات عسكرية. وأثبتت هذه الحرب أنه على إسرائيل أن تعيد تقدير المحارب العربي؛ فقد دفعت هذه المرة ثمنًا باهظًا جدًا. لقد هزّت حرب أكتوبر إسرائيل من القاعدة إلى القمة، وبدلًا من الثقة الزائدة جاءت الشكوك، وطفت على السطح أسئلة خطيرة: هل نعيش على دمارنا إلى الأبد؟ هل هناك احتمال للصمود في حروب أخرى؟
وفي كتاب «التقصير» الذي ألّفه سبعة من كبار الصحفيين الإسرائيليين (يشعياهو بن فورات، يهونتان جيفن، أوري دان، إيتان هيفر، حيزي كرمل، إيلي لندوا، إيلي تايور) جاء وصف للحرب التي لم يتوقعها أحد: أسباب التقصير الإسرائيلي، تفوق المخابرات المصرية، سقوط خط بارليف، وحسن تكتم المصريين. يقول الكتاب:
«لقد قاتل المصريون بصورة انتحارية؛ خرجوا نحونا من مسافة أمتار قليلة وسددوا مدافعهم الخفيفة المضادة للدبابات على دباباتنا، ولم يخشوا شيئًا. كانوا يتدحرجون بعد كل قذيفة بين العجلات، ويستترون تحت شجيرة على جانب الطريق، ويُعمّرون مدافعهم بطلقات جديدة. وعلى الرغم من إصابة عدد من جنود الكوماندوز المصريين، فإن زملاءهم لم يهربوا، بل استمروا في خوض معركة تعطيلية انتحارية ضد الدبابات، كما لو أنهم صمموا على دفع حياتهم ثمنًا لمنع الدبابات من المرور. واضطر جنود المدرعات إلى خوض معركة معهم، وهم يطلقون النار من رشاشاتهم من فوق الدبابات. وحقيقة، لم يحدث لنا من قبل في أي من الحروب التي نشبت مع المصريين مواجهة جنود بهذا النسق من البسالة والصمود».
وهذه الشهادات، وغيرها مما ذكره المؤرخون الإسرائيليون وكتاب أوروبا، تُظهر مدى شجاعة الجندي المصري في ميدان القتال.
أما عن شجاعة الشعب المصري فحدّث ولا حرج؛
فالشعب الذي يقف خلف قيادته وجيشه في حالة اصطفاف وطني في معركة البناء والتنمية ـ التي لم ولن تنتهي طالما هناك قلوب تنبض بالحياة في مصر ـ يعلم جيدًا أن روح أكتوبر هي التي نبني عليها أمجادنا وتاريخنا وماضينا، وهو ما شهد به العالم أجمع في معركة العزة بروح المقاتل المصري، الذي استطاع أن يعيد الأرض المسلوبة، ويقهر أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، ويحطم خط بارليف، ويعبر أكبر مانع مائي.
وربما لا تعرف الأجيال الجديدة القيمة التاريخية والاستراتيجية للانتصار في حرب أكتوبر عام 1973، لأنهم لم يقرأوا أو يعرفوا الكثير عن أجواء الإحباط والشعور بالانكسار التي عاشتها الشعوب العربية بعد هزيمة 1967 واحتلال إسرائيل لكامل أراضي فلسطين والقدس العربية ـ التي ما زالت محتلة حتى اليوم ـ بالإضافة إلى احتلال شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان، بعد أن نجحت الشعوب العربية في التخلص من براثن الاستعمار الغربي في منتصف القرن العشرين.