السبت 15 نوفمبر 2025 09:35 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

دكتور علاء الحمزاوى يكتب : هــلَّا شـَققْتَ عن قلبه؟!

دكتور علاء الحمزاوى
دكتور علاء الحمزاوى

ــ كلمة (هـلَّا) مركبة من (هـل) الاستفهامية و(لا) النافية، وهي تدخل على المضارع فتفيد الحـث والحـض على فعل الشيء، فنقول: هـلَّا تسعى إلى الخير؟ أي اسْعَ إلى الخير، وتدخل على الماضي فتفيد اللَّـوْم والعتاب، فنقول: هـلَّا سعيتَ إلى الخير؟ أي لِـمَ لـمْ تسعَ إلى الخير؟ وعلى ذلك فعبارة (هـلَّا شققتَ عن قلبه) معناها لِـمَ لَـمْ تشقَّ عن قلبه لتعلم ما فيه؟ وهذا مستحيل؛ فيصبح الغرض منها الإنكار للفعل الواقع من المخاطب، والعبارة كناية عن عدم العلم بما في القلب، ونفهم منها أنها تنهى عن سوء الظن بالناس وألا يتهم أحدٌ أحدًا بسوء؛ لأنه لم يطلع على ما في قلبه ليتأكد من ظنه به.
ــ والعبارة مقتبسة من حديث نبوي يوجِّه المسلم إلى عدم اتهام الناس بشيء دون دليل يقيني؛ حيث أنكر النبي على أسامة بن زيد قـتـلَه رجلا بعد أن نطق بالشهادة، قال له: «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟ فقال أسامة: يا رسول الله إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، فقَالَ النبي: أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟ قال أسامة: فَمَا زَالَ النَّبِيُّ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ»، أي من شدة ندمه تمنَّى لو أن إسلامه كان بعد هذه الحادثة، فيمحو هذا الذنب العظيم؛ لأن الإسلام يجبُّ ما قبله، ولأن كل موحِّد تَسَعُه رحمة الله معصوما دمه وماله؛ فلا يجوز أن نعامل الناس على ما نعتقد فيهم ونبني على اعتقادنا أحكاما وقرارات، إنما نعاملهم على تصرُّفاتهم وسلوكياتهم وأن نحسن بهم الظن، فالأصل فيهم أنهم أهـل للإيمان والصدق والحب والخير إلى أن يثبت العكس بدليل بيِّن.
ــ لذلك عاتب الله بعض الصحابة في رجل سلَّم عليهم فقتلوه ظنًّا منهم أنه فعل ذلك اتقاء شرهم، أي أنهم أساءوا به الظن واتخذوا قرارهم بناءً على ذلك؛ قال ابْن عَبَّاسٍ: «مَـرَّ رَجُلٌ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَهُوَ يَسُوقُ غَنَمًا لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا (فيما بينهم): مَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ مِنْكُمْ؛ فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غَنَمَهُ، فَأَتَوْا بِهَا النَّبِيَّ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ فيهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}، فحَمَلَ النَّبِي دِيَتَهُ إلى أهْلِهِ ورَدَّ غُنَيْمَتَهُ»، فالآية توجيه كريم للمسلم أن يتحقق ويتثبت من حقيقة الناس قبل الحكم عليهم، ثم أكدت الآية أن إلقاء السلام دليل الإيمان؛ لذا حذَّر النبي من اتهام الناس بالكفر؛ فقال: «أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ»، وقال: «مَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ»، أي أن الذي يكفِّر مؤمنا بلا حـق يأثم إثما عظيما يصل إلى إثـم القتل.
ــ ذلك لأن الحكم بالكفر ينتج عنه أن ذلك الكافر لا يرث ولا يورث، ويفرَّق بينه وبين زوجته، وإذا مات لا يُغسَّل ولا يكفَّن ولا يصلَّى عليه ولا يدفَن في مقابر المسلمين! فضلا عن ذلك ذكر العلماء أن التكفير جريمة ينتج عنها فوضى واضطراب وتمزيق لأواصر الأمة وغرس لبذور الشقاق والخلاف في المجتمع، وهـو مسوِّغ لاستباحة الدماء وانتهاك الأعراض والحُرُمَات وسلب الأموال وتخريب المنشآت وزعزعة الأمن والاستقرار وترويع الناس، وهذه فتنة أشد من الكفر؛ ومن ثم فالتكفير حكم خطير لا يجوز بغير يقين، فلا يُكفَّر أحد إلا إذا أنكر علنا معلوما من الدين بالضرورة كالإيمان بالله أو الغيب أو الرسل أو الكتب أو الشعائر، ولا يحكم بالتكفير إلا العلماء، فهو حـق لهم دون غيرهم.
ــ وكان اتهام الناس بالكفر من صفات الخوارج الذين ذكرهم النبي في حديث «بيْنَما نَحْنُ عِنْدَ رَسولِ اللَّهِ وهو يقسِم قسْما أَتَاهُ رَجُلٌ مِن بَنِي تَمِيمٍ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ اعْدِلْ، فَقالَ: ويْلَكَ! ومَن يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ؟! فَقالَ عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ ائْذَنْ لي فأضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقالَ: دَعْهُ فإنَّ له أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صَلَاتِهِمْ وصِيَامَهُ مع صِيَامِهِمْ يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، كان النبي يوزع غنيمة من الذهب على بعض الصحابة، فتجاوز رجل وقال: (اعدل)، وهذا يدل على جهله وسفاهته؛ فالنبي أكثر الناس عـدلا، ويحقر: يَستَقِلُّ، وتَراقيهم: جَمعُ تَرْقُـوَة، وهي عَظْم فوق أضلاع القفص الصدري يربط الذراع بالجسم، والمراد أن قراءتهم لا تصل إلى قلوبهم فلا يرفعها الله ولا يُثابونَ عليها؛ لأنهم لا يتدبرونها ولا يَعملون بها، والمستهدف من قراءة القرآن تَعقُّلُه وتَدَبُّرُه، ويَمرُقون: يَخرُجون سريعا مِن الإسلام كما يخرج السَّهمُ مِن الرَّميَّةِ، فشبَّهَ مُروقَهم مِن الدِّينِ بالسَّهمِ الَّذي يُصيبُ الصَّيدَ، فيَدخُلُ فيه ويَخرُجُ مِن النَّاحيةِ الأُخْرى لا يَعلَقُ به شيء من جسد الصَّيد، فكذلك هـم يخرجون من الدين لا ينالهم حـظ منه، قال القرطبي عنهم: "ويكفيك من جهلهم وغلوِّهم حكمُهم بتكفير من شهد له رسول الله بصحة إيمانه وبأنه من أهل الجنة".
ــ ويُستنبَط من الحديث أن الجهل والتنطع هما السبب الأول في الفكر الظلامي، يقول ابن تيمية: إن من البدع المنكرة أن تكفِّـر الطائفةُ غيرَها من طوائف المسلمين وأن تستحلَّ دماءهم وأموالهم، فمن ادعى دعوى وأطلق فيها عنان الجهل مخالفا فيها لأهل العلم يريد أن يكفِّـر ويضلل من لم يوافقه فهذا من أعظم ما يفعله كل جهول، وأن هؤلاء ينطبق عليهم قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، والإسلام دين الاعتدال، ويضيع بين الإفـراط والتفريط، فخير الأمور وسطها، والانحراف يقود إلى التطرف؛ لذا كان من وصايا النبي «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ»، أي هذا الدِّينَ صَلْب، فَسِيرُوا فِيهِ بِرِفْقٍ دون تَكَلُّفٍ، ولا تُحَمِّلُوا أَنْفُسَكُم مَا لا تُطِيقُونَ، فقد هلك المتنطعون، وقد تناسى الجهلاء والمتشددون أن الأعداء يتربصون بنا حسدا وحقدا، ففي الحديث «إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ آمِينَ»؛ ومن ثم حملوا على تمزيق وحدة المسلمين بكل السُّبُل؛ فنزل بسببهم قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}.

دكتور علاء الحمزاوى هــلَّا شـَققْتَ عن قلبه؟! الجارديان المصرية