الثلاثاء 16 أبريل 2024 05:38 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الدكتورة نعيمة عبد الجواد تكتب : إنسان ديجيتال حسب الترند

الدكتورة نعيمة عبدالجواد
الدكتورة نعيمة عبدالجواد

هناك كابوس يلاحق البشرية منذ الثورة الصناعية الثانية، وهو أن الآلة لسوف تأتي يومًا وتقضي فيه على الدور الذي يلعبه البشر في الكون؛ أو بمعنى آخر، لسوف تقوم الآلة بتهميش البشر بعد القضاء على دوره في الحياة. وبداية من الثورة الصناعية الثالثة، والتي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، صار خطر الإتصالات على نحو تكنولوجي ورقمي خطر كامن، والذي استشرى بعد أن اكتشف الإنسان الخطر الوشيك الذي يهدد البشرية مع تطوير الروبوت ليحاكي الإنسان. ففي تجارب مبدئية لمجموعة من العمليات تجرى من خلال استخدام الروبوت فقط ليكون المتحكم في سيرها، مما حتم إتصال أجهزة الروبوت ببعضها البعض لتبادل النتائج وتحسين الأداء. النتيجة كانت مذهلة، فلقد وجد أن الروبوت بعد الاتصال بأقرانه، والذين صمموا جميعاً ليتمتعوا بذكاء خارق، أن إمعان الأجهزة في الاتصال ببعضها البعض، جعلها تطور لغة خاصة بها، لا يفهمها البشر، لكنها تسهل وبشكل أكبرمساعدتها في إتمام عملياتها بسهولة ويسر تفوق النتائج المتوقعة في حال ما استخدمت اللغة التي صممها البشر لهم. مما يعني أن أجهزة الروبوت في نهاية المطاف كانت تسعى لاستحداث وعي خاص بها، وعي ينافس وعي البشر؛ لما يتمتع به الروبوت من ذكاء وقدرات تتنافس وذكاء وقدرات البشر.

وذاك الاكتشاف المذهل لم يهلل له العلماء، كالعادة، فاقمت النتيجة معدلات الاستياء العام، وكانت بمثابة ناقوس خطر للقائمين على إدارة شئون الآلة والبشر. فمع تزايد الاعتماد على الروبوت، لسوف يتعاظم قدر وكم المشكلات والتحديات التي تجابهها السلطات؛ فبدلاً من تحجيم الإنسان والسيطرة عليه بعد زيادة الاعتماد على الروبوت لتوكيد أن كفاءة الآلة تفوق كفاءة البشر مما يجعلها أكثر نفعاً، زاد حجم الأعباء عند إدراك السلطات أن المشكلات التي يجابهونها في طريقها للتضاعف. ومن أكثر المشكلات ضجراَ هو إدراك أن فرض السيطرة لن يشمل فقط الإنسان، لكن الروبوت أيضاً. ولهذا، كان لابد من إيجاد وسيلة لضمان السيطرة على كل من البشر والآلة، مع أيضاً وجود سيطرة ناعمة تامة، تفرض دون أدنى مقاومة، أو حتى ظهور بوادر عصيان. ولقد عكف أطباء علم النفس والأعصاب على إيجاد وسيلة للسيطرة على العقل البشري دون فرض قيود ملموسة، وفي نفس الوقت تحفيز الدماغ لتصل وظائفه لأقصى وأفضل حد ممكن. ومن الجدير بالذكر، أن المشروع اللا أخلاقي إم كيه أولترا MKUltra الذي أوميط اللثام عن خباياه وأعلنت أهدافه للعامة عام 1995، تكشف أنه يهدف إلى سبر أغوار العقل البشري باستخدام كل الوسائل، حتى وإن كانت غير مشروعة، وذلك من أجل التحكم في الدماغ. ووجدت سلطات التحقيق بعد تدمير أغلب مستندات المشروع على يد مدير المخابرات المركزية الأمريكية، أن المستندات القليلة المتبقية تشير إلى إجراء تجارب غريبة، ومنها ما تم تجريبه على كلب (من لحم ودم) من أجل السيطرة على دماغه. و نجحت التجربة لدرجة أن الكلب صار لا يتحرك بالريموت كنترول. فالعقل البشري وزيادة قدراته هو الهدف الرئيسي لمشروع إم كيه أولترا MKUltra، ويلازم ذلك إيجاد وسيلة تضمن ألا يخرج فيها الإنسان عن السيطرة التامة للمجموعة التي بيدها زمام أمور العالم. والتجربة السابقة والتي كانت تتخذ من الكلب وسيلة للتجريب كانت مجرد خطوة نحو تجريب المثل على الإنسان، وبذلك يتم تخليق إنسان جديد يتمتع بخصائص الروبوت، وفي نفس الوقت، يتمتع بقدرات بشرية فائقة والتي مكنته في السابق من اختراع الآلة.

وتجربة الكلب الذي يتحرك بالريموت كنترول أثارت استياء كل من علم بها. ومع ضياع مستندات مشروع إم كيه أولترا MKUltra عمداً ضاع معها المستندات الدالة على مكان الفروع البحثية للمشروع، والأبحاث الجديدة، ومصادر التمويل، وصار من الصعب تقفي إلى أي حد وصلت هذه المشروعات النفسية العصبية، وإن تناثرت عليها الأقوال بين الفنية والأخرى. إلى أن فوجئ العالم في عام 1999، أي بعد أربع سنوات فقط من كشف خبايا مشروع إم كيه أولترا MKUltra، أن الدكتور ميجيل نيكوليليس Miguel Nicholelis وهو أستاذ علم الأعصاب بجامعة ديوك Duke University بالولايات المتحدة الأمريكية، يعلن أنه اكتشف وسيلة تجعل العقل البشري قادراً على التحكم فيما حوله من أشياء عن طريق التخاطر – بمعنى آخر التفكير في الشئ. فعند التفكير في فتح الكمبيوتر – على سبيل المثال – يتم فتحه. وكان مشروع د. ميجيل يقوم على زرع خلايا عصبية إلكترونية في العقل البشري لتكون نموذجاً مصغراً للعقل البشري، وأطلق على مشروعه هذا اسم (واجهة الدماغ)، والتي كان يسعى بها إلى مساعدة من تعرض لتلف في دماغه من جراء حادث، أو الإصابة بالزهايمر، أو الصرع، أو الشلل، إلى ما شابه ذلك. وباستخدام الخلايا الإلكترونية لسوف يتم استحداث بشر خارق للعادة، بإمكانهم اقتحام أعتى النظم، وإنجاز مهمات معقدة بمجرد التفكير فيها. وكان الخوف الأعظم للدكتور ميجيل نيكوليليس أن يتم استغلال ذلك المشروع في أغراض غير مدنية، أو لا تهدف مساعدة المرضى.
وفاجأ رجل الأعمال الأمريكي الشهير إيلون ماسك Elon Musk صاحب شركة نيورالينك Neuralink للتكنولوجيات العصبية – وهي إحدى الشركات التكنولوجية العديدة التي يمتلكها إيلون ماسك، في يوم الجمعة الموافق 2 أغسطس 2020، العالم بأسره باستحداث (شريحة دماغية) Brain Chip، يمكن زرعها في الدماغ البشري بسهولة وفي زمن لا يتخطى نحو الربع ساعة. وشريحة إيلون ماسك تقوم فكرتها على تتبع أفكار الفرد ذاته ورصدها، وبالتالي رصد احتياجاته وتنفيذها عن طريق التخاطر. وعلى الملأ، استعرض ماسك في فيلم قصير نتائج مشروع شريحة الدماغ من خلال استعراض وضعها على ثلاثة خنازير؛ أحدهما وضعت فيها شريحة دماغ وتدعى (جرترود)، والثانية لم يوضع بها أي شئ، والثالثة قيل أنه تم زراعة الشريحة ونزعها منها؛ لاثبات أن نزع الشريحة لا يؤثر بالسلب على الفرد. والشريحة ما هي إلا تقنية متطورة لجهاز واجهة الدماغ الذي اخترعه دكتور ميجيل، وبدلا من وضع جهاز كبير على الدماغ لفترات متقطعة، يتم زرع الشريحة لأجل غير معلوم. وعملية الزراعة سهلة، وسريعة تضاهي أي عملية تصحيح إبصار بالليزر.وقُطر شريحة الدماغ لا يتعدى الإثنين سنتيمتر، وثخانتها ثمانية ملليمتر. وعن طريق التخاطر، تتعامل الشريحة مع أحدث الأجهزة التقنية، وتخزن كم هائل من المعلومات يتم استدعائها في ثواني معدودة. ومن ثم، يصير الإنسان ذو قدرات خارقة لكونه هجينا ما بين البشر والروبوت. فشريحة الدماغ هي الوسيلة الجديدة لدمج الإنسان بالآلة حتى يحافظ الإنسان على تفوقه المعهود.
والغريب، أن الروبوت بعد تفوقه على العنصر البشري لعقود عديدة، من المتوقع أن يتوارى دوره مرة أخرى في وجود إنسان خارق قادر على تنفيذ عمليات كثيرة ومعقدة لا يستطيع إنجازها روبوت واحد. وفي ظل كل هذا التقدم الهائل، هل يمكن للإنسان أن ينجو أخيراً من جميع المخاطر التي تهدده، مثل الأمراض النفسية والعصبية، والشلل، وحتى إنخفاض مستوى الذكاء؟ بالفعل، الشريحة قادرة على أخذ الإنسان لشاطئ النجاة بانتشاله من كل هذه الأخطار، لكن في حال انقطاع الإنترنت، أو إصابة الشريحة بفيروس، أو اختراق الشريحة بالتهكير، لسوف تنبلج جميع المساوئ. ولسوف يصير الإنسان ليس بصاحب للقرار، ولكن مغلوباً على أمره يفعل ما يؤمر به، تماماً مثل ما حدث للخنزيرة جرترود التي كانوا يأمرونها بالقفز. فالإنسان الخارق الذي سوف تخلِّقه الشريحة ما هو إلا مخلوق ناقص، كما كان الروبوت الذي لا يستطيع إثبات كونه آلة أو إنسان، ولكن اختراع بيْن بيْن.
المستقبل صار مشوشًا لطالما ارتضى الإنسان أن يسير وفقًا لأهداف غير معلنة، والأخطر من ذلك هو عدم محاولة البشر التفكُّر فيما سوف يحل بهم بعد الانصياع للموجات الجديدة من اكتشافات قد لا يحمد عقباها. ياليت البشر يعلمون أن مسايرة (التريند) Trend ليس كل شيء، ولكن سبر أغوار ما يمكن خلف الصورة - التي قد تكون خادعة - التي يرسمها التريند هي الوسيلة لمعرفة ما قد يحل بالإنسان في المستقبل.