الخميس 8 مايو 2025 07:28 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : 8 مايو.. يوم الانتصار في فرنسا ويوم الدم في الجزائر

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

في كل عام، في مثل هذا اليوم، تفتح الجزائر جرحًا لم يندمل، وتستعيد ذاكرتها المثقلة بالألم والحزن والمآسي. 8 مايو 1945 ليس يوماً عادياً في التاريخ الجزائري، بل هو يوم الدم، يوم المجازر، يوم صرخة الشعب التي أُغرقت في بحر من الرصاص والدموع والنار. بينما ترفع فرنسا أعلامها، وتنفخ في أبواق نصرها على النازية، ترفع الجزائر كفها إلى السماء باكية، مستغفرة لضحاياها الذين سقطوا برصاص نفس الدولة التي تدّعي أنها نصيرة للحرية وحقوق الإنسان.

خرج الشعب الجزائري في ذلك اليوم بمظاهرات سلمية، رجال ونساء وأطفال، يحملون لافتات تُطالب بالحرية، يرفعون العلم الجزائري، يهتفون من قلوبهم: نريد الاستقلال.. نريد الحياة الكريمة بعد قرن وربع من الاحتلال والقهر والإذلال. لم يحملوا سلاحًا، بل حملوا الحلم، وكانوا يؤمنون أن من ضحّى إلى جانب فرنسا ضد النازية في الحرب العالمية الثانية، يستحق منها وعدًا بالحياة، لا الموت. لكن فرنسا كشّرت عن أنيابها، وأسقطت القناع، وأظهرت وجهها الاستعماري الدموي دون رحمة.

الرد الفرنسي لم يكن سوى مذبحة جماعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. مذبحة استُخدمت فيها الطائرات، والدبابات، والمدافع، وحتى الأسلحة البيضاء، والوحشية التي فاقت خيال أكثر المتشائمين. سُحلت الجثث في الشوارع، أُحرقت القرى عن بكرة أبيها، نُهبت المنازل، وتحوّلت سهول سطيف وقالمة وخراطة إلى مقابر جماعية، تئن فيها الأرض من هول ما رأت، وتختنق فيها السماء من صراخ الأطفال والنساء الذين احترقوا أحياءً داخل منازلهم.

لم تكن المجازر مجرد انتقام من مظاهرة، بل كانت رسالة استعمارية واضحة: من يجرؤ على الحلم بالحرية، فليكن مستعدًا للموت دون رحمة. أكثر من 45 ألف جزائري سقطوا في أيام قليلة، بلا ذنب سوى أنهم طالبوا بحياة كريمة على أرضهم. دفن بعضهم أحياءً، وقُطّعت أجساد بعضهم بالسكاكين، وأُلقي بآخرين من الطائرات. ومن لم يمت بالسلاح، مات بالقهر، مات بالخوف، مات بانطفاء الأمل.

فرنسا – التي تتفاخر بأنها بلد الأنوار – اختارت أن تطفئ أنوار شعب بأكمله، أن تمحو الذاكرة، أن تمارس إبادة جماعية بحق أمة فقط لأنها قالت: كفى. وتلك المجازر ليست حالة استثنائية في تاريخ فرنسا الاستعماري، بل هي صورة من ماضيها الملطخ بالدم في كل مستعمرة وطأتها أقدام جنودها. من الجزائر إلى فيتنام إلى إفريقيا السوداء، كانت فرنسا تبني مجدها المزعوم على جماجم الشعوب، وعلى أنين المظلومين، وعلى حرائق القرى.

لم يكن الاستقلال الذي ناله الشعب الجزائري عام 1962 منحة من فرنسا، بل كان ثمنه الدم، ثمنه مليون ونصف المليون شهيد، ثمنه سنوات من التعذيب في السجون، من التنكيل في الجبال، من الرعب في البيوت. لم يكن هناك طريق إلى الحرية إلا عبر النار، وكان كل جزائري يولد ومعه إدراك عميق: أن هذا الاحتلال لا يفهم لغة السلام، ولا يستجيب إلا للدماء.

واليوم، تحاول فرنسا التهرب من هذا التاريخ، ترفض الاعتذار، ترفض الاعتراف، تُسوّق لفكرة المصالحة دون أن تضع الحقيقة أولًا، ودون أن تحترم ذاكرة أمة ما زالت تعاني من آثار ذلك القتل الجماعي. لكن الجريمة لا تسقط بالتقادم، والعدالة لا تموت، والشعوب لا تنسى. ستظل الجزائر تروي حكايات المجازر، وستظل دماء الشهداء تصرخ في وجه النسيان.

8 مايو في فرنسا عيد، لكنه في الجزائر مأتم. إنه يوم الغدر، يوم السكاكين، يوم الأطفال الذين استشهدوا وهم يضحكون في حضن أمهاتهم، يوم الأمهات اللواتي خرجن يطالبن لأبنائهن بالكرامة فعُدن محمولات على الأكتاف، يوم الآباء الذين قُتلوا لأنهم حلموا فقط.

هذا هو التاريخ الذي تريد فرنسا طمسه، لكنها لن تستطيع. لأن ذاكرة الدم لا تُمحى، ولأن من أراد الاستقلال عليه أن يقدّم الدم، والجزائر قدمته غزيرًا، نقيًا، مملوءًا بالعزة والكرامة.