الإثنين 12 مايو 2025 04:17 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الكاتب الكبير سعدنى السلامونى يكتب: دوامات المحطات الأخيرة للحياة الثانية

الكاتب الكبير سعدنى السلامونى
الكاتب الكبير سعدنى السلامونى

عُمر الإنسان مُقسَّم إلى عدة مراحل، والمراحل عبارة عن محطات يعيش فيها الإنسان، الذي يعيش مع الناس داخل قِطار الحياة.
وفي بداية عمره، يطير بجسده الذي يشبه الطير كيف يشاء، من آخر عربة في القِطار إلى أول عربة تقود القِطار. ثم يعود إلى العربة الأخيرة، وهكذا.
وهو لا يدرك أن قِطار الحياة يحمله إلى محطات، وكل محطة يصل إليها القِطار هي من عمره.

وفي معظم المراحل، هو الذي يتحكم في جسده كيف يشاء، ولا يستطيع جسده أن يخالف أوامره، لأن جسده يشبه السيارة بقدر كبير. فهناك سيارة جديدة، وهناك ما أصابها الكِبَر.
فالسيارة الجديدة تمتلك كل الطاقات، وتدّبُ بكل ما تملك من قوة على أرض طريقها بلا رحمة، حتى تقترب من المحطة الأخيرة.
وفجأة، ينتهي زيتها وبنزينها، ومُحرِّكها، ويتهالك جسدها. وكل عضو في جسدها يشكو مرضًا ما، وهنا تنتشر الأمراض في كل جسدها، لأن جهاز مناعتها تهالك.

وما من إنسان يقضي عمره إلا ويمر على كل هذه المحطات، نهايةً بأصعب محطة، وهي المحطة الأخيرة، التي يقضي فيها الإنسان عمره ما بين محطة وأخرى.

فالمؤمن بالله يؤمن بالحياة الثانية، ويتعامل مع كل محطات عمره على أنها مراحل، وكل الأمراض ما جاءت إلا بأقدار، لتُطهِر الجسد من المعاصي التي ارتكبها في بداية عمره، وفي عزّ شبابه.
وحين يصيبه الكِبَر، يتجاهل الدنيا، ويكوِّن رصيدًا من الخيرات لينفعه في الحياة الثانية. فمنهم من يتجه إلى الحج، ومنهم من يتصدق بشكل جنوني، ومنهم من لا يترك وقتًا إلا لصلاة، حتى يُحصِّن نفسه للحياة الثانية. ولا يشعر بشيء من الاغتراب، ويموت في سلام.

ومنهم من يستيقظ فجأةً على المحطة الأخيرة، ويسقط في بحرٍ من الدهشة، ويتساءل:
أين ذهب عُمري؟ من الذي قاد جسدي كل هذا العُمر وارتكب به كل هذه الكوارث؟
ويسقط في بحرٍ من الاكتئاب، ويعيش مغتربًا بين سياط الأمراض وسياط الاغتراب، ويموت مغتربًا.

أما المبدع، فهو إنسان غير الإنسان، لأن الله عز وجل اصطفاه بما لا يصطفي به الإنسان العادي، وهو الخيال.
وهذا الخيال هو سفينة العلم والفكر والإبداع. فيعيش المبدع بقوانين حياتية غير قوانين الناس، ويُخاطب الجماهير بمنتجه، ثم يُوثِّق هذا المنتج العظيم في التاريخ، لتكون منه أجيال وأجيال.
من هنا، يعيش حياةً غير حياة الإنسان. وبرغم ما يعيشه من شقاء ومواجهات وتحديات، إلا أنه يحصل على مكتسبات لا حدود لها.

وفي محطته الأخيرة، يسقط في بحر التجاهل؛ تجاهل من النظام، ومن الدولة، ومن المجتمع.
وهو يسقط فريسةً لكمية أمراض لا تُحصى ولا تُعد. وهنا يكتشف الحقيقة، كما يكتشف أن كل حياته كانت في أكاذيب، وكل نجاحاته ما هي إلا وهم، وأنه أضاع عمره في وطن لا يستحق.
وهنا يفقد لذة الحياة وطعمها، كما يفقد لذة لحومها الحيوانية والنسائية. كل الأشياء عنده تتساوى، ويعيش حياةً بطعم الموت.

وأي نجاح يحققه في سنواته الأخيرة يتعامل معه بكل تجاهل، لأنه بلا طعم.
وقد يكون هو البطل العظيم الذي قضى عمره كله يُناضل من أجل كلمة الحق، وهو أكبر من كل الدول والأنظمة، ويجمع ما لا يُحصى ولا يُعد من مال نضاله العفيف.

وفجأة، يأتيه أول مرض لجسده من عدة أمراض قادمة تقف في طابور لاتهام جسده.
وينظر لأبنائه وعائلته، يتركونه جثةً هامدة على فراش المرض، ويوجهون نداءات لكبار المسؤولين لعلاجه، وتنهال عشرات الأخبار والمقالات تنادي بعلاجه على نفقة الدولة.
وهو يعلم تمامًا أنه أكبر من الدولة والنظام، وأنه حاربهم أمام كاميرات العالم، والدولة والنظام لا يستجيبان لعلاجه، حتى يكون عبرةً لكل من يقف في وجهها أو وجه ابنها، وهو النظام.

وبرغم هذا، لا تتوقف النداءات.
والسؤال هنا: لماذا لا يُعالج المبدع الكبير نفسه من حر إبداعه؟
لأن عجلة قيادة حياته لم تعد في يده، بل في يد أبنائه وعائلته.
وعائلته لا يعنيها علاجه أو موته، بقدر ما يعنيها الاحتفاظ بما سوف يتركه من إرث.
فيموت مغتربًا، موتةَ من جاء إلى الدنيا غريبًا وخرج منها غريبًا، إلا الذي آمن بالله.
ومن آمن بالله يؤمن بأنه رب الحياة الثانية.

سعدنى السلامونى مقالات سعدنى السلامونى دوامات المحطات الأخيرة للحياة الثانية الجارديان المصرية