الأربعاء 14 مايو 2025 05:37 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الكاتبة والناقدة العراقية إيناس هاشم تكتب عن : مسرحية ( رأسي من الجنوب)

الكاتبة والناقدة العراقية إيناس هاشم
الكاتبة والناقدة العراقية إيناس هاشم

مسرحية رأسي من الجنوب عرضت على خشبة منتدى المسرح التجريبي في بغداد، من تأليف وإخراج : محمد كويش وتمثيل، مؤمل حيدر، غفران فارس، فكرت حسين، محمد كويش.
المسرحية من نوع المسرح الصامت، والمقصود من المسرح الصامت كما عرفه د.كمال يونس في كتابه (المرصد المسرحي) هو معادلة تماماً للسينما الصامتة، يعتمد على نص حكاية مكتوب متعدد الشخصيات بلا حوار، تذكر فيه المشاهد وتوصف بدقة ينفذ على يد َخرج ذي دراية وكفاءة عالية بحيث يستطيع تفجير طاقات الأداء المتقن للممثلين في تناسق تام مع عناصر العرض من إضاءة وازياء وديكور زمن عرضه أكبر من زمن عرض البانتوميم القصيرة، وأقل من عرض العروض الناطقة فتصل رسالته للجمهور كما تفعل السينما الصامته، أما فكرةالمسرحية فهي عن جفاف الأهوار، والجنوب الذي تعرض لأبشع أنواع البطش والقمع، ونداء واستغاثة لإعادة إحياء ذلك الجنوب المندثر، فهي عبارة عن رحلة درامية تصور حياة الإنسان الجنوبي؛ لذلك نجد المخرج قد جعل من الفنتازيا لغة تقرب الواقع، من حيث اختياره لفضاء يجسد الشكل والمضمون لبيئة أهل الجنوب وبالأخص مناطق الأهوار، وذلك من أجل إيصال احساس وصورة للمتلقي تجعله يتعايش مع معاناة ذلك الجنوب المندثر والولوج في هويته، فكان اختيار المخرج لملامح واقعية، مثل الديكور المتمثل بالأرضية المتربة، والقارب المهجور، ويمثل الصورة الرمزية للمسرحية، والذي تكاد تُمحى ملامحه، بسبب الغبار، والقصب المحيط به أشبه بالسهام المغروزة في قلب فارس شجاع ثار ضد الظلم فخذله كلَّ شيء حتى قوته فسقط شامخاً، لما له من حقوق لابد أن ترد إليه في يوم من الأيام، كذلك صورة القارب أشبه بحالة الفارس، وجفاف الأهوار هو نقطة الخذلان التي تعرض لها القارب، وهذه الصورة الرمزية الملفته التي وقع عليها اختيار المخرج ، وكذلك اختياره للإضاءة الخافتة الممزوجة بالغبار فهي أكثر تزامناً مع العرض جعلت المتلقي يعيش باحساسه مع أهل الجنوب، والمكمل لهذه الصورة الحسية هي الأزياء الجنوبية البحتة ، والسور البسيط المتكون من القصب.. أما الأحداث فتبدأ بدخول اليونسكو من أجل الإغاثة الإنسانية، لكن المخرج كان له رأيٌ آخر؛ إذ جعل من الأجانب الذي قام بهذا الدور، فكرت حسين، وغفران فارس، طرف مدمر تجمتع فيهم كل المسببات السلبية، مثل السرقة والنهب والحروب والعنصرية... وصولاً إلى قطع الماء وجفاف الأهوار، أي أنه جعل من دخول الأجانب سبباً في التدمير والخراب الذي حلَّ بالبلد عامة، وبأهل الجنوب ومنطقة الأهوار البسيطة بشكل خاص.
ومن هنا تبدأ ملامح عنوان المسرحية (رأسي من الجنوب) فالعنوان للوهلة الأولى يأخذنا إلى أدب مناطقي يتحيز لفئة معينة دون أخرى، لكن عندما شاهدنا العرض، وجدنا المخرج قد ارادَ من العنوان نداء استغاثة بلسان بلد بأكمله، أي كأن عراقنا ينادي العالم بأن رأسي من ذلك الجنوب المندثر، فهو إرث أجدادي فإذا جفَّ فلا خير في أرض قاحلة، ولا ملامح للهوية بسبب سيادة الجفاف، للتعبير عن تشظي الهوية واختفاء ملامحها، اختار المخرج التمثال الذي وجدوه الأجانب في أرض الأهوار على الرغم من أن الأهوار معروف عنها خالية من الآثار. ثم دور رجل الجنوب، الذي قام به محمد كويش، ودور الثور الذي قام به مؤمل حيدر، ودورهم يمثل ذروة الأحداث، فالمخرج جعل من رجل الجنوب يعطي ثلاث صور بأداءٍ وأحد، مرة صورة الرجل الجنوبي الذي يستغيث بالثور لتحمل ظروف الجفاف باعتباره هو من يحرث ويحصد والرفيق له بهذه الرحلة هو الثور، ومرة صورة بلد شجاع بإمكانه الصمود بوجه الظروف المريرة ومكابد الحروب التي مرَّ بها، ومرة صورة ابن الجنوب المهمش والتي ملأت مقابرهم وادي السلام، هو المضحي في سبيل الوطن وأرضه بروحه وصعوبة الظروف وأبرزها التهميش لهويته، و وجعل المخرج المصاحب لدور الرجل الجنوبي والمكمل له هو دور الثور الذي قام به مؤمل حيدر، وأيضاً استطاع من خلاله إيصال صورتين للمتلقي من خلال أداء واحد، الصورة الأولى صورة الثور المصاحب للإنسان من بداية تكوينه قديماً، ويعد رمز لمنطقة الأهوار، والصورة الثانية دور الثور عندما يحارب، وعندما يحزن ويندب، والحرب والحزن والندب تأخذ المشاهد لمنعطف آخر في المسرحية، فصورة الثور الذي يحزن ويندب هي صورة فنتازية، جعلها المخرج تعبر عن دور المرأة المهمش، وبالأخص المرأة الجنوبية، التهميش هو عندما رسم ملامحها برأس الثور، وهي نظرة سائدة لدور المرأة السائد في الجنوب هي من يتحمل ظروف الجفاف من الناحية الاقتصادية، وهي من يتحمل ظروف الحروب فهي المضحي الأول بالولد، وكأنها تنجب رجال في سبيل الوطن الذي همش هويتهم وليس بمقدورها تغير الواقع والفعل المتاح هو الصبر والحزن والندب، والمخرج جعل الموسيقى في خدمة هذا الدور ( دور الثور) مرة الصوت الذي يوحي بعدم الأمان، ومرة صوت الاهازيج التي تستعمل في العزاء، وكانت توحي بخسارة شاب قتلته الظروف المحيطة في البلد بأكمله، ولكن اختيار الموت كان لأبن الجنوب!! وهذه أيضا إشارة للتهميش.
فالعرض كان مناسب للعنوان، رأسي من الجنوب والاختيار للديكور والإضاءة والموسيقى والأزياء متناسق مع العنوان.
أما اللغة فهي صامته والتعبير جاء بالحركات، التي جعلت المتلقي يفهم العرض ويفهم لهجة الجنوب من دون كلام، وهذا واضح من خلال إقبال الجمهور لها طوال مدة عرضها لثلاثة أيام، وهذا بفضل صياغة المخرج لعمله، وأهم ملاحظة ملفتة في العرض وتعد نقطة مميزة للمخرج، هي عندما اختار راوي ليقول هذه العبارة في نهاية العرض : ( وكأن الأرض حزُنتْ واختار الله لها جنوباً ليبكي) فهذه العبارة هي نقطة تنم عن فنان رفيع باختيارته للعرض، والغاية من العرض هي أن لكل أرض جنوب، أما العراق فجنوبه شجاع وحامي لأرضه، فإذا حزنت أرضنا فجنوبنا هو الذي سيبكي، لأنه هو المضحي بخيراته وبشبابه والمرأة في الجنوب هي مثال للقوة والصبر، والفن هو وليد المجتمع، فهل يعد فناً أن أهمل جهة وسلط الضوء على جهة ثانية، أم هل يعد فناً إذا أهمل واقع أرضنا وسلط الضوء على الخيال، فالإجابة جعلها المخرج مطروحة بالعرض.
وهي أيضا دعوة لإعادة المجتمع للفن وبالأخص المسرح، لأن المجتمع بحاجة إلى من يعبر عنه، أكثر من حاجته للتسلية، وبالتالي من خلال ردة فعل الجمهور للعرض استطيع أن أقول كان عمل موفق بفضل حنكة وذكاء المخرج وبراعة دور الممثلين.