د.أحمد يوسف يكتب: فارس يكشف المستور


في مساء الجمعة السادس عشر من شهر مايو الحالي، قضينا وقتا مسروقا من الزمن في ضيافة مسرح محمد صبحي للاستمتاع بمشاهدة مسرحية" فارس يكشف المستور". وقد استجبنا لدعوة د. كمال يونس الكاتب والناقد المسرحي المعروف الذي تنعقد بينه وبين محمد صبحي صلات من الود والفكر والفن. وقد أبدى الفنان الكبير سعادته وترحيبه حين علم برغبتنا في الذهاب إليه، حيث يقع مسرحه في الكيلو 117 على طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي. وهو موقع بعيد عن مركزية الفنون في القاهرة، وبعيد عن الإسكندرية. وبعيد عن صخب الحياة وازدحام الناس، وصعوبة التحرك والانتقال. وهو منتجع في منطقة صحراوية راحت تكسوها الخضرة، والمزارع والأشجار، فلم يعد لها من الصحراء إلا الاسم القديم.
وحين تصل إلى هناك، تجد من يبش في وجهك، ويفتح قلبه قبل ذراعيه لك. وتمضي إلى الداخل، فتجد مكانا منظما ومقسما لاستيعاب السيارات الخاصة والحافلات التي تحمل الجمهور من مختلف الأعمار. وحين تتحرر من عبء سيارتك، تقودك قدماك إلى مدخل المسرح، تستقبلك الاستراحة الواسعة المزدانة جدرانها بمئات الصور التذكارية لأعلام المسرح المصري منذ بدايته حتى الآن. فأينما وجهت بصرك، تر صور هؤلاء الأعلام من الرجال والنساء الذين أبدعوا هذا الجمال. إن التاريخ-في هذا المكان-بما فيه من قيم التجدد والأصالة والاستمرار يدعوك للزهو والاعتداد، ويفرض علينا سؤالا لا يغيب: وماذا نفعل بعد هؤلاء؟ لقد رادوا، وأسسوا وشادوا، وتركوا بناء شامخا. إن مسرح محمد صبحي امتداد لهذا التاريخ على نحو مغاير. لايستمد أسئلته منه، وينصت إلى أسئلة الواقع الاجتماعي بأبعاده الثقافية والسياسية والاقتصادية والنقدية ولا يغيب عنه الفن الذي يثير الأسئلة وينتقد وفي الوقت نفسه، يبهج ويمتع ويفيد. يؤكد حضور الوعي كما يلبي أشواق الروح للنشوة واللذة والمتعة. يخاطب الإنسان في كل مكان، وعينه على إنسان الوطن وأزماته وتطلعاته وأشواقه للعيش في حرية وعدالة وأمان.
في السابعة تماما، دقت أجراس المسرح، بعد أن استراح الناس على مقاعدهم، وولوا وجوههم شطر الأضواء والمناظر والأزياء، وشنفت آذانهم الأنغام المصاحبة للدراما المسرحية، هذا فضلا عن رشاقة حركة الممثلين وحيويتهم. هؤلاء الممثلون الذين اختارهم محمد صبحي بعناية يمثلون كل الأعمار من الكبار ذوي التاريخ والخبرة، ومن الشباب ذوي الطموح والحيوية وإثبات الذات، ومن الأطفال الذين سبقوا أعمارهم.
شاهدت العرض المسرحي كله، ولم أسمح لعيني ولا لحواسي كلها أن يفوتها فائتة. وصاحبت النجم الكبير صاحب هذا الجمع، من الناس في هذا المكان البعيد، وهو يتحرك على خشبة المسرح كاشفا عن قدراته في الأداء والانتقال بين مساحات الانفعال المتقابلة، فأيقنت أن الفن كل الفن بكل أنواعه، وأن الفنان لاتكفيه الموهبة، فهي نبت يمكن أن يذوي إن لم تصقله التجربة والدربة والمران والفكر والثقافة والدراية بأحوال الأمم والتاريخ. فالفنان الحق أبلغ من الفيلسوف، وأعمق من العالم لأنه جمع بينهما وزاد عليهما. جمع الفكر والعلم والفن. وأرى أن الفنان محمد صبحي قد تهيأ له الفكر والعلم والفن بعد أن صقلته تجارب السنين ودروس التاريخ. فهو نموذج ومثال.
وقد اختار صبحي لمسرحيته هذا الاسم" فارس يكشف المستور" وهذا الاسم ليس جذابا ولا يشد إليه أهل الإعلان والتسويق. وحواس الناس كلها يشدها الإبهار والخداع. ولكن صبحي حقق كل ما يريد من الجذب والإبهار ليحقق أهم ما يصبو إليه وهو الوعي. فمن الفارس وما المستور؟ وما دور الفارس؟ إن الفارس رمز إلى النزال والقتال، وتستدعيه الأمة وقت الخطر الذي يتهددها ويهدد وجودها. ولكن الفارس الذي يقدمه صبحي ورفاقه هو كل من يكشف عن الزيف ويرسخ الوعي، ويؤمن برسالته فلا يخشى من ذوي المصالح وجماعات الضغط ولا يساوم، ويرى بعين العلم والمعرفة الخونة والمتآمرين والأعداء الحقيقيين الذين يخادعون بأقنعة السلام وحقوق الإنسان ووحدة الأديان، وحرية المثليين، وإبادة الإنسان والتهجير الطوعي والقسري.
إن صبحي مستعينا بتقنيات الفن المسرحي خاطب جمهوره الذي يأتيه كل مساء وصرح لهم بعدوهم التاريخي وما يبيته لهم من أخطار وكوارث تحت مظلة الاقتصاد واستقطاب السياسة وتهديد السلاح، وتشويه التاريخ، وتزييف الأديان، والانغماس في الملذات الطارئة وصنع النماذج الفارغة التي يرسخها بوصفها قدوة يجب الاحتذاء بها، وتغييب النماذج الأصيلة في العلم والفكر والفن والدين والكفاح والنضال. هذا هو الفارس الذي يكشف المستور على مسرح محمد صبحي. وأنهى مسعاه التنويري في ختام المسرحية بقوله إن عدونا الحقيقي والأوحد هو أمريكا وإسرائيل.