حسين السمنودى يكتب : دموع وجراح ودماء أطفال غزة تشكو الإعلام العربي والعالمي .


في بقعة صغيرة على خريطة الأرض، تُرتكب أفظع الجرائم، وتُغتال الحياة تحت أنقاض المنازل والمستشفيات والمدارس. إنها غزة… تلك البقعة التي تحوّلت إلى ساحة للدم، ومرآة تعكس خيانة الإنسانية. إنها الحرب التي لا تُشبه الحروب، إنها الإبادة الجماعية التي يقودها بنيامين نتنياهو، الرجل الذي رسم لنفسه طريقًا مفروشًا بدماء الأبرياء، مدعومًا بتحالف أمريكي صهيوني لم يعرف التاريخ مثيلاً لدمويته وجرأته على انتهاك كل القوانين والمواثيق.
في قلب الليل، حيث لا صوت يعلو فوق صوت القذائف، وبين أنين الجرحى وصراخ الأطفال، تختنق غزة تحت نيران حرب إبادة تُشنّ بدم بارد على يد رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، مدعوماً بصمت دولي مخزٍ وتواطؤ أمريكي فجّ. لم تعد المجازر في غزة تُعد أو تُحصى، فكل يومٍ جديد يأتي بجريمة أشد بشاعة من التي سبقته، في مسلسل دموي لا تنتهي فصوله، وسيناريو جهنمي تحوّل فيه المدنيون إلى أهداف مباشرة، والمستشفيات إلى ساحات قتال، والمنازل إلى مقابر جماعية.
نتنياهو، الذي يتباهى علنًا بإسقاط الأبراج فوق رؤوس ساكنيها، ويطلق العنان لطيرانه ليُبيد أحياءً كاملة في دقائق معدودة، لم يعد يخشى شيئًا، لأنه يعرف أن واشنطن خلفه، تمنحه المال والسلاح والدعم السياسي والغطاء الإعلامي، في أكبر مؤامرة إنسانية ضد شعب أعزل. لقد تمزقت معايير القانون الدولي، ودُفنت كل مبادئ حقوق الإنسان في رمال غزة، حين أصبحت دماء الأطفال مادة للمساومة، وصرخات النساء مجرد "أضرار جانبية" في تقارير الجيش الإسرائيلي.
ما يحدث في غزة اليوم ليس حربًا، بل إبادة منظمة ومقصودة، تحمل توقيع دولة تفوقت على النازية في وحشيتها، وترتكب جرائم جماعية على مرأى ومسمع من العالم، دون أي رد فعل حقيقي. أين هي محكمة الجنايات الدولية؟ وأين قرارات مجلس الأمن؟ لماذا يُترك نتنياهو وجنوده يذبحون الأطفال ويقتلعون العائلات من جذورها دون مساءلة؟ إنها المؤامرة بعينها، حيث تتماهى المصالح الأمريكية مع الطموحات الصهيونية، فتتحول القوانين إلى أوراق مهترئة، والعدالة إلى أكذوبة.
التجويع… تلك الكلمة التي أصبحت واقعًا يوميًا في غزة، حيث يُمنع دخول الطعام والدواء، وتُغلق المعابر، وتُقصف الشاحنات قبل أن تصل، ويُحرم الأطفال من الحليب والمرضى من العلاج. سُحقت الأسواق، وخُزنت السلع في أحلام البسطاء فقط. الخبز صار نادرًا، والماء الصالح للشرب بات ترفًا، والناس يصطفون بالساعات أمام أطلال مخابز مهدمة وأكشاك طعام شبه محروقة. كل هذا ليس صدفة، بل سياسة خنق كاملة يقودها الاحتلال ليكسر إرادة شعب رفض الركوع، ورفض أن يهاجر من أرضه.
أما التهجير، فهو الوجه الآخر للمجزرة. إسرائيل لا تقصف فقط، بل تدفع سكان القطاع دفعًا إلى الخروج من أرضهم، مستخدمةً الرعب كوسيلة. تُسقط المناشير، تُبث رسائل التهديد، وتُصدر التعليمات بمغادرة المنازل "فورًا"، ثم تبدأ المدافع عملها. لا تُعطى للعائلات فرصة لجمع أوراقهم أو حتى دفاتر أولادهم. يُقتلعون كما تُقتلع الأشجار، يُساقون من حي إلى حي، ومن مدينة إلى أخرى داخل رقعة ضيقة، ثم يُقصف المكان الجديد أيضاً، في سلسلة خبيثة هدفها واحد: اقتلاع الإنسان من جذوره.
وأما المرض، فقد اجتاح غزة من كل صوب، فالمستشفيات مدمرة، والأدوية مفقودة، والمولدات الكهربائية متوقفة. الأطفال يموتون بسبب الجفاف وسوء التغذية، والنساء الحوامل يلدن في الملاجئ أو على الطرقات. تحوّلت غرف العمليات إلى مقابر أحيانًا، وتحوّل الأطباء إلى شهداء، وصرنا أمام كارثة إنسانية طبية لا تجد من يتدخل أو حتى يشجب.
كل هذا يتم بتخطيط كامل، وبشراكة أمريكية صريحة، لا تخجل من الوقوف في صف الجلاد، ولا تتردد في منع قرارات وقف إطلاق النار، وتُبرر المجازر بذرائع "الدفاع عن النفس". أي دفاع هذا الذي يقتل آلاف الأطفال؟ أي منطق هذا الذي يحوّل الغنائم إلى "أهداف عسكرية مشروعة"؟ وأي عقل يقبل أن تُحرق عائلة كاملة لمجرد وجود شبهة مقاوم في الحي؟
تسير المؤامرة الكبرى على قدم وساق. أمريكا تمد إسرائيل بالسلاح والغطاء الدبلوماسي، وتُغلق الأبواب أمام أي مبادرة للسلام، وتشجع استمرار المجازر بالفيتو والتمويل. إنها خطة واضحة لتفريغ غزة، وكسر إرادتها، وتحويلها إلى أرض لا تصلح للحياة، وإبقاء الفلسطيني في حالة موت دائم لا يثور ولا يتنفس.
ومع ذلك، غزة لا تموت. غزة تُولد كل يوم من جديد. وسط الرماد، تخرج الصرخات، وتولد الأرواح التي ترفض الانكسار. من تحت الركام، يظهر طفل مبتسم، يحمل حجرًا صغيرًا ويقول: "سنعود".
نعم، غزة تنزف، ولكنها تنزف شرفًا. تُقصف، ولكنها تقاتل. تُحاصر، ولكنها لا تركع. ستظل دماؤها لعنة على القتلة، وستظل جراحها شاهدة على جبن هذا العالم الذي باع الضمير وسكت عن الحق.
ستكتب غزة مستقبلها بدم أبنائها، وستبقى تُذَكِّر الجميع أن من أراد أن يدفنها، لم يعرف أن التراب في غزة يولد مقاومة، لا موتًا.
وإلى أن يأتي يوم الحساب… ستظل صرخات الأطفال تطارد نتنياهو، وستبقى واشنطن شريكة في كل نقطة دم فلسطينية سقطت… ولن يغفر التاريخ.