الكاتب الكبير رامي الشاعر يكتب :المطالب الروسية الموجهة لـ ”الناتو” في إسطنبول: التمييز بين وقف إطلاق النار وتقييمه أولاً.


لم يكن من قبيل المصادفة أن تنتهي المحادثات الروسية " الأوكرانية" أو بالأدق الروسية – الأوروبية بعد ساعة واحدة من بدايتها، بعد الهجوم الإرهابي على قاعدة روسية، ما يعني أن هناك أمراً مبيتاً يؤكد الفرضية الروسية بأن محادثات السلام التي تجري منذ 2022 هي محادثات بين روسيا و وأوروبا، وهي الحقيقة التي أدركتها الولايات المتحدة مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة، الذي بدا واضحاً في مواقفه من دول الناتو، خصوصاً بعد إعلانه وقف الدعم لدول الحلف، مطالباً إياها بأن " تحمي نفسها بنفسها".
يخطأ من يظن بأن مهمة الفريق التفاوضي الروسي للحديث عن وقف إطلاق النار، بقدر ماهي تقييماً لشروط وقف إطلاق النار، فقد تحولت المفاوضات التي تشتبك فيها أوروبا بشكل مباشر إلى سلة مليئة بالحلول والمشكلات، وهي الحلول غير القابلة للتفاوض، والمتعلقة بالأمن القومي الروسي، والعلاقة مع أوروبا، أما المشكلات فتلك المتعلقة بمصير الشعب الأوكراني الشقيق، الذي يرزح تحت وطأة الانتحار السياسي والوجودي للنازيين الجدد، ولعل ما يؤكد ذلك أن " تقييم" المفاوضات مازال يدور في فلك أمور إنسانية بأبعاد تعكس رغبة روسيا بالسلام، وإعطاء فرصة لكسر جمود العمل السياسي بدل الحرب، ولا علاقة له البتة بجوهر التفاوض، الذي يبدأ وينتهي بفرضية تاريخية يعكس الهوية التاريخية والثقافية للسياسة الخارجية الروسية، المعترف بها جيوبوليتيكاً كدولة يستحيل استعاء أمنها داخل مجالها الحيوي في منطقة الأرض الأوراسي، كعقيدة راسخة في ضمير الشعب الروسي، يجب الأخذ بها لإحداث تطورات استراتيجية في أية عملية تفاوضية مع أي طرف كان.
كشفت RT العربية بنود المذكرة الروسية التي تقدم بها الوفد الروسي في مفاوضات إسطنبول لتسوية الأزمة الأوكرانية.
وفيما يدور الحوار بين الوفدين الروسي والأوكراني، إلا أن جميع بنود تلك المذكرة لا تتعلق بالأزمة "الأوكرانية" قدر ارتباطها كليا بأزمة روسيا-"الناتو"، والعلاقة المشتبكة والمعقدة بين القوتين العظميين روسيا والولايات المتحدة، التي تقود الغرب، الذي يرتدي قفاز النظام النازي في كييف، الذي يسيطر على الحكم بانقلاب متكامل الأركان منذ عام 2014، ويحاول هؤلاء بكل ما أوتوا من قوة استنزاف روسيا، وزعزعة استقرارها الداخلي، وقلب نظام الحكم فيها، وتفتيتها إلى عشرات الجمهوريات. هذا جوهر الأمر ومضمون الأشياء، وما عدا ذلك يندرج فقط تحت بند الحرب الإعلامية الغربية الهجينة ضد روسيا، التي تحاول بكل إمكانياتها، وبكل مواردها البشرية والمادية وباستخدام الذكاء الاصطناعي وآخر ما توصلت إليه التكنولوجيا وثورة الاتصالات، تضليل المجتمع الدولي وتعزيز سردية أن الحرب إنما هي حرب "روسية أوكرانية"، ويقوم الغرب، عقب هزيمته المنكرة على الأرض في أوكرانيا، بمحاولات بائسة لإضعاف هيبة روسيا، وتشويه الأهداف والاستراتيجيات التي قامت من أجلها العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا. وأكرر هنا، العملية العسكرية، لا الحرب، ولا العدوان، ولا الغزو، وإنما هي عملية عسكرية تستهدف بالأساس حماية الأمن القومي الروسي قبل كل شيء.
لقد طرحت وجهة النظر هذه في أكثر من مئة مقال منذ وقبل بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، لا سيما عقب انقلاب عام 2014 في كييف، وكتبت كتابا باللغة الروسية حمل عنوان "من ضدنا" منذ عام ونصف العام، أوضحت فيه رؤيتي الشخصية المتواضعة لقراء اللغة الروسية، ومفهومي عن المطالب التي تقدمت بها روسيا في ديسمبر 2021 إلى الولايات المتحدة وإلى "الناتو" من أجل بناء هيكل مستدام للأمن في أوروبا يعتمد على "الأمن للجميع"، وعلى عدم ضمان أمن بعض الدول خصما من أمن دول أخرى، وهو المبدأ الذي وقعت عليه دول "الناتو"، دون أن تنفذه، بعد أن تمددت من جدار برلين (الذي وعدوا يوما ألا يتحركوا بوصة واحدة شرقه) حتى وصلت اليوم إلى الداخل الأوكراني، الذي قالت وأكدت ولا زالت روسيا تؤكد أنه خط أحمر لا جدال بشأنه.
إن جميع مطالب روسيا "لأوكرانيا" كما نشر في وسائل الإعلام، هي في واقع الأمر مطالب روسيا إلى حلف "الناتو"، فروسيا وأوكرانيا جارتان، ترتبطان بتاريخ وثقافة ودماء وأعراق مشتركة، والشعبان الروسي والأوكراني هم شعب يحمل أصلا سلافيا واحدا، لكن النازية هي ما استجد على أوكرانيا بعد انقلاب عام 2014، وهو ما دفع سكان شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس إلى اللجوء إلى المبدأ الدولي الراسخ في حق الشعوب في تقرير مصيرها، وفي استفتاء شرعي انفصلت تلك الجمهوريات، وانضمت شبه جزيرة القرم، 2014، إلى روسيا، بعد التهديد الواضح والمستمر من جانب "الناتو" لقلب موازين القوى العسكرية في البحر الأسود باستيلاء النظام الانقلابي الموالي للغرب في كييف على القرم وسيفاستوبول، حيث يوجد أسطول البحر الأسود الروسي.
يأتي ذلك بالطبع عقب عشرات المناورات العسكرية المشتركة ما بين الجيش الأوكراني و"الناتو"، وبعد تدشين مطارات وتمركز قوات وتجهيز أوكرانيا للمواجهة مع روسيا على نحو رأيناه واضحا خلال الثلاث سنوات التالية للصراع. فروسيا، إذا كانت لتحارب أوكرانيا وحدها، لكانت موازين القوى اختلفت بالكامل، ولكانت انتصرت على أوكرانيا في ظرف أشهر إن لم يكن أسابيع. ما نراه واضحا للعيان هي الحرب بين روسيا و"الناتو" لا ينكرها إلا مضلل.
لذلك فإن المادة الخاصة بالاعتراف الدولي القانوني بانضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا، لا علاقة له بأوكرانيا قدر ارتباطها تماما بالأمن القومي الروسي وتحديدا أمن البحر الأسود، ومخرج روسيا الطبيعي والتاريخي إلى تلك المياه.
مطلب الحياد الأوكراني يبدو هو الآخر في صياغته وكأنه مطلب روسي موجه "لأوكرانيا"، إلا أنه في جوهر الأمر يعكس الوضع الحالي الراهن على الأرض، حيث يرتدي "الناتو" قفاز النظام النازي في كييف، ويقتل بأيدي أبناء الشعب الأوكراني الشقيق، إخوتهم الروس بأسلحة غربية ("هيمارس"، "ستورم شادو"، ومؤخرا يعد المستشار الألماني فريدريش ميرتس صواريخ "تاوروس" بعيدة المدى، بعدما احترقت دبابات "ليوبارد" الألمانية). لهذا فإن حياد أوكرانيا وتخليها عن الانضمام إلى تحالفات وتكتلات عسكرية ووقف العمل والامتناع عن إبرام أي معاهدات أو اتفاقات دولية تتعارض مع هذا الحياد، هو مطلب روسي لـ "الناتو" بامتياز.
تأكيد وضع أوكرانيا كدولة غير حائزة لأسلحة الدمار الشامل، بعد أن تخلت أوكرانيا في مذكرة بودابست للضمانات الأمنية لعام 1994 عن السلاح النووي السوفيتي (لا الأوكراني!)، يضمن حق روسيا في العيش بأمان دون أن تنشر الدول الأوروبية رؤوسا نووية على الأراضي الأوكرانية برعاية النظام المتطرف في كييف، ويضمن توقف لعب أوكرانيا لدور القفاز الغربي ورأس الحربة ضد الأمن القومي الروسي.
نزع سلاح أوكرانيا وتحديد الحد الأقصى للقوات المسلحة الأوكرانية والتشكيلات العسكرية الأخرى، ووضع حدود قصوى لتلك القوات هو مطلب أمني روسي واضح أيضا لـ"الناتو" لا "لأوكرانيا"، وقد رأينا هذا الكم الهائل من المرتزقة والنازيين الجدد والمستشارين الغربيين من كل حدب وصوب، بمعنى أن الجيش الأوكراني المخترق والمنتهك والذي يعمل بإرادة غربية مهيمنة يجب أن يتم تحديد أعداده وتشكيلاته حماية لروسيا من "الناتو" لا من أوكرانيا.
أما الحظر القانوني على تمجيد الدعاية النازية والنازية الجديدة وحل التنظيمات والأحزاب القومية المتطرفة، فإن المرء ليتعجب كيف لا تقف أوروبا في عام 2025، بعد مرور 80 عاما على دحر النازية، مع مثل هذا البند قلبا وقالبا، وكيف لا تدرك أوروبا أنها تنزلق مرة أخرى لنفس المستنقع النازي، الذي راح ضحيته في المرة السابقة منذ ثمانية عقود عشرات الملايين من البشر حول العالم. ولا أظن أن مكافحة النازية هو أمر يتعلق بأوكرانيا قدر ارتباطه بأوروبا و"الناتو".
تتضمن المذكرة كذلك بندا لرفع جميع العقوبات الاقتصادية المفروضة حاليا والامتناع عن فرض عقوبات أو قيود أو إجراءات مقيدة جديدة ضد روسيا، وهي عقوبات فرضها الغرب كشكل من أشكال "العقاب" لـ "تجرؤ" روسيا للدفاع عن أمنها القومي. فأين أوكرانيا هنا من ذلك؟
إن المذكرة الروسية الموجهة لـ "الناتو" هي في مجملها الأرضية الأساسية لإنهاء الأزمة الأوكرانية التي اندلعت تجسيدا للصراع الأكبر بين روسيا و"الناتو"، والذي دخل في مرحلة ساخنة ببدء روسيا عمليتها العسكرية في أوكرانيا دفاعا عن حدودها وأمنها واستقرارها وشعوبها الناطقة بالروسية والتي تنتمي تاريخيا، بما تعيش عليه من أراض، إلى روسيا ثقافة ومعتقدا.
والمذكرة الروسية بشكلها الحالي هي الضمان وورقة التوت الأخيرة التي تبقت لإنقاذ ما تبقى من أوكرانيا والحفاظ عليها كدولة، وكل بنودها تستند بشكل أساسي إلى ما حققته القوات الروسية على الأرض، ولم تكن تلك القوات لتحقق أي إنجاز على الأرض دون حاضنة شعبية روسية في الأراضي التي تحررها ولا "تغزوها" على حد تعبير وسائل الإعلام الغربية (ومعها بعض وسائل إعلامنا العربية).
والجبهة التي يتحارب على جانبيها القوات الروسية والأوكرانية تبلغ 1800 كيلومترا، سيتم تحديد المنطقة العازلة بها داخل الأراضي الأوكرانية، وحينها يتم التباحث على كيفية إعادة بناء العلاقات ليس فقط بين روسيا وأوكرانيا، وإنما بين روسيا وأوروبا استنادا إلى الحقائق الجديدة على أرض الواقع لا في دنيا الأحلام والأماني.
وبصرف النظر عن أي "إنجازات" يدعيها الجانب الأوكراني، وتضخمها وسائل الإعلام الغربية، من ضرب لمحطات قطار أو مطارات، أو طائرات استراتيجية، وغيرها. فإن ما يواجه أوكرانيا وأوروبا في واقع الأمر هو توقف الأسلحة الأمريكية بعد وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو ما يعني أن على أوروبا أن تضطلع بمسؤولية تمويل وإمداد أوكرانيا بالأسلحة دون مساعدة الأخ الأكبر في واشنطن. لذلك فإن ضربة هنا أو ضربة هناك، لا تعني شيئا في سير العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، حيث تتقدم القوات الروسية بثقة وتحرر مزيدا من الأراضي، وعلى أوكرانيا، وأتصور أن القادة العسكريين الأوكرانيين يدركون هذه الحقيقة جيدا، ولا تدركها القيادة السياسية في كييف، أن تختار الآن وبسرعة ما إذا كانت ستقتنص الفرصة وتحصل على ما يمكن الحصول عليه الآن، أو تفقد الدولة الأوكرانية للأبد. وهذا أيضا شأن روسي-أوروبي، لا روسي-أوكراني.
ختاما، روسيا دولة عظمى نووية، وروسيا بمعادلات الجغرافية والتاريخ لا تخسر الحروب لأنها لا تبدأها، لكنها عادة ما تنهيها، وأتوقع بل أتمنى أن تكون نهاية العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا قريبة، بدلا من أن تتحول إلى حرب حقيقية بين روسيا و"الناتو"، والتي ستنتصر فيها روسيا أيضا، سواء بالطرق التقليدية أو بغيرها، فكما استطاع الاتحاد السوفياتي - الذي ورثته روسيا - حماية شعوب أوروبا والعالم من النازية والفاشية، فإن روسيا اليوم قادرة على حماية شعوبها في روسيا وأوكرانيا من النازيين الجدد.