الإثنين 16 يونيو 2025 05:21 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

مروة نايل تكتب : العجوز والبحر... ونحن

الكاتبة مروة نايل
الكاتبة مروة نايل

في قرية صغيرة على أطراف بحرٍ مترام، كان هناك رجل عجوز اسمه "سانتياغو"، قضى أيامه ممسكا مجدافا، وعيناه لا تفارقان الأفق، أربعة وثمانون يوما، لم يصطاد فيها سمكة واحدة، ليس لأنه لا يعرف الصيد، بل لأن الحظ جافاه،ولكنه لم يستسلم.

تعالوا نتخيل هذا المشهد قليلا... أليس هو نفسه حال كثيرين منا اليوم؟

نستيقظ كل صباح، نبحر في بحر الحياة، نواجه الريح، ونرمي شباكنا في المجهول، نحاول، نُخفق، نعود بخفي حنين، المجتمع من حولنا الذي لايكف عن المراقبة والتتبع كأنه واجب قومي وحق من حقوق المواطنة أن يحشر أنفه في كل تفاصيل حياتك ، يبدأ في التهامس والتأويل وتأليف سيناريوهات ولا أبرع كتاب هوليود وبليود وأبو لمعة، بقصة طويلة عريضة مفادها أنك انتهيت ، ولم تعد كما كنت، وطبعا مع وضع بعض التحابيش"والحبشتكنات" لزوم الحبكة،ثم ووسط هذا الضجيج الذي يحولك لكرة صالحة لكل ألعاب المضرب من البينج بونج ،للجولف والهوكي عشبي وترابي وجليدي ، حتى تصل لمضارب للاسكواش فردي وزوجي "وضربه فيك يامعلم وضربه في الحيط"وقبل الضربة الأخيرة التي تعلن عن فوز البطل بعدما تحطمنا قسوة الضربات، ينبثق في داخلنا صوت يشبه ذاك الذي صاح في "سانتياغو"،اذهب أبعد… لا تتراجع، لا تكن ممن يرضون بالقاع.

في اليوم الخامس والثمانين،دفع سانتياغو قاربه الصغير، وأبحر بعيدًا، لم يكن يملك شيئًا إلا إرادته، وهناك في الأعماق، التقى بالسمكة الكبيرة، لم تكن سمكة عادية، بل كانت حلمًا طارد قلبه منذ زمن.

هل رأيت، نحن جميعًا لدينا "سمكة كبيرة"،
حلم مؤجل، وظيفة منتظرة،فكرة لم نجرؤ على تنفيذها لكثرة المماطلة والتسويف،لكن نصدق أنفسنا ونجدف بحدسنا وقتها سنجرؤ على المضي نحو العمق، لنجدها هناك، تسبح في الأفق.

سانتياغو لم يصطاد السمكة بسهولة، قاتلها لساعات، دُهش من قوتها، لكنه لم ييأس، تمسك بالحبل، أحرقته الشمس، خذلته يداه، ترنح به القارب وشارف على الغرق ، ورغم ذلك، صمد.

وهنا، تُرفع المرآة أمامنا، لنعرف معنى أن نتألم من أجل حلم،أن نُهزم ولا ننكسر ،أن نفقد كل شيء، ونعود فقط بفخرنا بعدما فزنا بشرف المحاولة تلو المحاولة.
عندما اصطاد العجوز السمكة، لم يكن انتصاره في الغنيمة، بل في الرحلة، في الصراع، في الصبر الذي اختبر إنسانيته، ومدى قوته وصلابة إرادته، وحتى عندما التهمت أسماك القرش فريسته، لم يعد مهزومًا. عاد منتصرا بالهيكل، الدليل الدامغ للسعي وشهادة براءة الذمة من التكاسل والتخاذل "وأن ليس للإنسان إلا ماسعى" لكنه مهزومٌ فقط في أعين أبراج المراقبة وكتائب الاستطلاع من الجيران والأهل والأصحاب الذين لم يخوضوا معاركه، مثلهم كمثل الحمار الذي يضحك على الحصان الذي خسر في ميادين السباق بينما لا ولن تمس حدوتهم طرف مضمار.
نحن نعيش اليوم في عالم يُقاس فيه النجاح بالأرباح، والمكانة، وعدد المتابعين، لكن الرواية تعلمنا درسًا مختلفًا، الكرامة لا تُقاس بالنتيجة، بل بالصبر والمثابرة والنبل في الطريقة.
العامل المجتهد الذي يعود كل مساء دون أن ينال التقدير … هو سانتياغو،الأم التي تربي أطفالها بصمت، وتخوض معارك يومية لا يراها أحد… هي سانتياغو،الشاب/ه‍ الذي يبحث عن وظيفة، ويقابل بالرفض تلو الآخر، لكنه لا يتوقف… هو سانتياغو.

كل من يقاتل في صمت، ويعود بجراحه، ويحمل هيكل حلمه الممزق لكنه مازال يناضل لآخر نقطة عرق … هو سانتياغو ، ما أراد همنغواي مؤلف الرواية أن يقوله، قاله ببساطة على لسان بطله سانتياغو: "الإنسان ليس مخلوقًا خُلِق للهزيمة. قد يُدمَّر، لكنه لا يُهزم."

كأن الكاتب يهمس لنا عبر صفحات الرواية،
الكرامة في أن نحاول ولا نمل عن المحاولات ، البطولة في أن نواصل ولا نتوقف، والنصر الحقيقي أن لا نتخلى عن ذواتنا ونحن نصارع الحياة.

في النهاية،رواية العجوز والبحر ليست عن رجل يصطاد سمكة،إنها عن كل إنسان فينا يرفض أن يركن للفشل، الذي يذهب رغم الجراح ليقاتل من جديد، الذي يعلم أن في العمق المظلم كنوزًا، لكنها لا تأتي إلا للذين لا يخافون من الخسارة.

فهل ستبقى على الشاطئ؟ أم أنك مستعد لأن تبحر؟

مروة نايل قالات مروة نايل العجوز والبحر... ونحن الجارديان المصرية