مدحت الشيخ يكتب: ماسبيرو.. صناعة الوعي ومدرسة الإعلام


من على ضفاف النيل، حيث يعلو صوت مصر عبر الأثير، يقف مبنى ماسبيرو شامخًا كأحد أعمدة القوة الناعمة المصرية، لا يُشبه غيره، ولا يُشبهه شيء. لم يكن مجرد مبنى من خرسانة وحديد، بل مصنعًا للعقول، وورشةً لا تنام لصناعة الوعي، وتشكيل الذوق العام، وتوجيه البوصلة الوطنية.
في ماسبيرو، لم نكن نشاهد فقط نشرة أخبار، بل كنا نقرأ بين سطورها ما يريده الوطن، وما يجب أن نحذر منه. لم تكن البرامج مجرد فقرات مرصوصة، بل كانت دروسًا في حب الوطن والانتماء، تُقدَّم باللهجة المصرية العذبة، وبصوت لا يعلو إلا ليوقظ الضمير.
منه خرج حُراس الكلمة والصورة، رواد الإعلام الحقيقي، من جيل فهم أن الكاميرا ليست للزينة، والمايكروفون ليس أداة شهرة، بل أمانة في عنق كل من يعتليه. في مدرسة ماسبيرو تخرّجت الكفاءات، وتكونت ذاكرة الأمة من لقطات سجلها مخرج، أو تعليق بصوت المذيع الذي تربّى على "قل ولا تقل"، وفهم أن الكلمة موقف.
اليوم، ومع صخب المنصات وتضخم "فقاعات المحتوى"، يبقى ماسبيرو رمزًا لهوية الإعلام المصري، ومرجعية لا تسقط بالتقادم، مهما حاول البعض تهميش دوره أو التشكيك في قدرته. فالذي بناه جيل من المخلصين لا يُهدّمه جيل من العابرين.
ماسبيرو ليس مبنى على كورنيش النيل... ماسبيرو هو ذاكرة وطن، وهو مدرسة لمَن أراد أن يتعلّم كيف يكون الإعلام إعلامًا، لا فرقعة.
فهل آن الأوان أن نُعيد لهذا الصرح العريق مكانته؟ أم سنتركه ضيف شرف في احتفالات التكريم، ثم نغلق عليه الأبواب في صمت؟!