الأحد 29 يونيو 2025 01:14 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. نهال أحمد يوسف تكتب : فاجعة لا تُروى، وذنب لا يُغتفر

د. نهال أحمد يوسف
د. نهال أحمد يوسف

في فجر يومٍ لا يشبه كل الأيام، استيقظت مصر على فاجعةٍ جديدة، على نغمةٍ قديمةٍ لا يكفّ عزفها عن حصد الأرواح. 18 فتاة، وشاب، لم تكن نهايتهم مجرد "حادث سير عابر"، فقد كانت صرخةً مدوّية، ولدت من رحم الإهمال المتجذر، وصرخت في وجه كل من يتجاهل المسؤولية ويتهرب من المحاسبة. إنها فاجعة لا تُروى في بضع كلمات، وذنبٌ لا يُغتفر، ولا يمحوه الزمن ولا النسيان. إن كل قطرة دم تسيل على الأسفلت هي سؤالٌ ملحّ يطرق أبواب ضمائرنا، ويهزّ أركان غرورنا بما شيدناه: هل أصبحت هذه الطرق شواهد على قبور جماعية، أم هي شرايين حياة تنبض بالخطر والقدر المحتوم؟ قد نتباهى اليوم بشبكة الطرق الحديثة التي شُيّدت بجهدٍ عظيم، وببنيةٍ تحتيةٍ عصرية، وبمشاريع عملاقة تزين الصحراء وتختصر المسافات، لكن أيّ قيمةٍ لهذه الإنجازات إذا كانت طرقنا لا تزال تروي قصص الموت؟ إنها مفارقة مؤلمة؛ نمدّ الطرق لتقرّبنا، فإذا بها تباعد بيننا وبين أحبائنا إلى الأبد. إن هذا التناقض الصارخ بين عظمة الإنجازات وفداحة الخسائر البشرية يجب أن يكون مصدر خزيٍ وعار، لا مدعاة فخر واعتزاز. كل كيلومتر من الأسفلت قد لا يكون سوى شاهد صامت على مأساةٍ جديدة، على أرواحٍ ذهبت أدراج الرياح دون ذنب، إلا أنها سارت على طريقٍ لم يرحمهم.
المشكلة أعمق من سائقٍ متهور أو لحظة غفلة، إنها منظومةٌ متكاملة من التقصير، تتشابك فيها خيوط الفساد والإهمال واللامبالاة لتنسج ثوباً أسود من المآسي. تلك الفتيات لم يكنّ يسِرن في طريقٍ للترفيه أو النزهة، إنما كنّ يسِرن نحو لقمة العيش، باحثات عن رزقٍ شحيح في ظروفٍ بالغة الخطورة. إن هذا المشهد ليس مجرد حادثٍ، بل هو انعكاس لواقعٍ اقتصاديٍ مرير يدفع أثمن ما نملك إلى فوهة الخطر، واقع يفرض على الشباب والفتيات أن يخاطروا بحياتهم كل يوم من أجل بضعة جنيهات بالكاد تُكفيهم. وأين المسؤولية الأخلاقية للشركات التي تستغل حاجة الناس؟ هل تستحق حياةُ عاملٍ أن تُبادَل بأجرٍ زهيدٍ، وبوسائل نقلٍ متهالكة لا تراعي أبسط معايير السلامة؟ إنها علاقة استغلالٍ لا إنسانية، يتحول فيها الإنسان إلى مجرد سلعة رخيصة، يُرمى بها في طريق الموت مقابل حفنة من المال. على عاتق هذه الشركات تقع مسؤولية أخلاقية وقانونية لا يمكن التنصل منها، فكل سائق متهور، وكل سيارة متهالكة، وكل رحلة محفوفة بالمخاطر، هي نتاج لسياسات ربحية عمياء لا ترى في البشر إلا أرقاماً في دفتر الحسابات.
إن دائرة الإهمال لا تتوقف هنا، إنما تتسع لتشمل غياب الرقابة الحكومية وضعف تطبيق القانون. هل يتم منح تراخيص قيادة المركبات الثقيلة، التي تتحول إلى آلات قتلٍ في أيدٍ غير أمينة، بدون تدقيقٍ أو اختباراتٍ صارمة؟ هل هناك متابعةٌ دورية للياقة السائقين البدنية والنفسية، خاصةً أولئك الذين يقودون لساعاتٍ طويلة في ظروفٍ قاسية؟ وأين الرقابة الصارمة على الطرق نفسها، واللافتات التحذيرية التي يجب أن تُنير الظلام وتحذر من الخطر، وتأمين النقاط السوداء التي تتحول إلى مصائد موت لا يمكن الفرار منها؟ إن القوانين لا تُصنع لتُعلّق على الجدران وتُستخدم في الخطابات الرنانة، لكن لتُطبّق على أرض الواقع بحزمٍ وعدلٍ. وما الذي يجعلنا نتعامل مع الكوارث الإنسانية كأرقامٍ في إحصائية، نعلن عنها ثم نغلق الملف وكأن شيئاً لم يكن؟ إن تجاهل الأسباب الجذرية وراء هذه المآسي يفتح الباب أمام تكرارها، ويمنح المسؤولين صك براءةٍ لم يطلبوه، بل منحهم إياه صمتنا وتخاذلنا.
وفي وسط هذا كله، لا يمكننا أن نغفل عن مسؤوليتنا الفردية كأفراد في المجتمع. فكم مرة رأينا سائقاً يسير عكس الاتجاه وكأنه أمر طبيعي، أو راكب دراجة نارية يخترق الشوارع دون أدنى اعتبار للمارة، أو مواطناً يعبر الطريق السريع غير مبالٍ بخطورة الموقف؟ إن هذا السلوك الفردي أصبح ظاهرةً، وكأنه جزء من طبيعتنا. لقد أصبح خرق القواعد المرورية نوعاً من "الشطارة" أو "التدبير"، لا مخالفة يعاقب عليها القانون وقد تودي بحياة الأبرياء. إننا نمارس الإهمال في أبسط تصرفاتنا اليومية، ونلوم الآخرين على نتائج هذا الإهمال. يجب أن ندرك أن تطبيق القانون يبدأ من الفرد، وأن احترام القواعد هو أساس الأمان المجتمعي. كل خطأ نرتكبه، مهما بدا بسيطاً، يضيف لبنةً في جدار الفوضى الذي يهدد حياتنا جميعاً.
أنا ضد الإهمال والتقصير في كل صوره، وضد عدم تفعيل القانون بشكل حاسم. إن حديثي هو صرخة في وجه كل من يتقاعس عن أداء واجبه، سواء كان مسؤولاً رفيع المستوى أو مواطناً عادياً. إنني أؤمن بأن حياة الإنسان هي أثمن ما نملك، وأن أي تنازل عنها أو عن سلامتها هو جريمة لا تغتفر. هذه الدماء لن تتوقف إلا بتفعيل مبدأ المساءلة بلا هوادة، وتقديم كل مقصر إلى العدالة، مهما علا شأنه أو ارتفع منصبه. لقد آن الأوان لتتحول هذه الدماء إلى وقودٍ لدفع حقيقي نحو تطبيق القانون، وتغيير جذري في طريقة تعاملنا مع أرواحنا. إنها دعوة للتغيير من الجذور، دعوة لنبني دولةً تقدر حياة مواطنيها، ولا تستهين بها في سبيل أي شئ. هل سنستمر في غفلتنا إلى أن يأتي الدور علينا أو على من نحب؟ إن صمتنا أمام الإهمال بكل صوره هو أكبر جريمة، وهو ما يجعلنا شركاء في كل قطرة دم تسيل على هذه الطرق.

د. نهال أحمد يوسف تكتب : فاجعة لا تُروى وذنب لا يُغتفر فاجعة لا تُروى وذنب لا يُغتفر الجارديان المصرية