محمد جراح يكتب : الدينُ والسياسةُ في مصرَ القديمة (1)


قد لا يجانب الصواب كثيراً أولئك الذين يتحدثون بمحبة فتظن أنهم قد بالغوا في القول بادعاء أن الدين اختراع مصري، فالدارس المحقق والمتمعن لتلك الحضارة الخالدة يستطيع أن يرى بوضوح أثر الدين والتدين على كل من الأرض وأهلها في مصرنا الحبيبة. فمنذ فجر التاريخ شغل أمر الكون وآليات تنظيمه عقل ذلك الإنسان الذي استطاع بفكره وإرادته أن يسوس النهر، واستنبات البذرة، وسكنى ضفتي النهر المتدفق بالخير؛ فكان الاستقرار الذي أدى إلى نشوء مجتمعات متجانسة من أناس عرفوا الزراعة واحترفوها، وطوروا من وسائل تنميتها، فاخترعوا ما يناسب ذلك من أدوات تساعدهم في عمليات الحرث، والري، والحصاد، وغيرها من الوسائل التي تساعدهم في الحصول على الغلال والثمار.
كان لابد لهذا المجتمع المستقر ولكي يضمن ويحافظ على وحدته من أطر تحكمه وتنظم أموره لضمان استمراره، وتؤصل لعلاقات بها من العدل ما يضمن ويعطي لكل ذي حق حقه في العيش؛ والعمل؛ والتعامل اليومي؛ فلا يطغى قوي على ضعيف، ولا كبير على صغير.
وعندما وصل المصري إلى هذا المستوى من الرقي الأخلاقي عمل بدأب على فلسفة الحياة من حوله؛ ومن ثم بدأ في مراقبة ودراسة الظواهر المختلفة من حوله فالسماء بها من الأسرار ما لا يعرفه، والأرض وإن جادت له ببعض خيرها فإن فيها هي الأخرى ما لم يدركه، نظر إلى الرياح والعواصف والفيضان وغيرها، وما فاق قدراته ساسه بحكمة التدين فعظم قوى وقدس أخرى وهو يدرك في الوقت ذاته أنه وإن كان هو محور الحياة؛ إلا أن هناك من هو بيده كل الشأن، ورأى أن ذلك الذي بيده الشأن هو قوة جبارة في مرات فهابها وتحسب لها؛ وعطوفة في مرات أخرى فابتهل إليها وتقرب منها، فهي التي تخلق، وهي التي تجري المقادير، وهي التي ستحاسب في النهاية، فتعددت نظريات الخلق ومن أشهرها بالطبع نظرية "عين شمس" بتاسوعها الشهير باسم تاسوع هليوبوليس، ورأسه الإله أو الرب "رع" الذي رمز إليه بالشمس.
وبالنظر إلى نظريات الخلق نجدها تتفق على أن هناك رباً أكبر، وهو رب واحد بيده كل شيء، (وبالطبع لا ننفي تأثر المصري القديم بشرائع سماوية ربما ظهرت أو أرسل بها رسل في ذلك التاريخ)، لكننا من أسف لا نستطيع اثباتها لأن الآثار والتراث الذي تخلف عن المصريين القدماء حتى الآن لم يشر بجلاء ناحية هذا الأمر. والمصري كان مثل غيره من الأمم التي تناسلت من آدم وحواء، وربما لعبت هذه الشرائع بشكل أو بآخر في فلسفة المصري لها وتفسيرها أو إعادة انتاجها بما يوافق هواه، وأنا هنا غير معني بمسألة تحريف شرائع سماوية أو غيرها وإنما بمحاولة تفسير ما كان قائماً.
وبالنظر إلى قصة الخلق الأول نجد فيها تشابهاً مع ما جاء في الديانات السماوية حيث نون هو محيط الماء الذي ابتدأ من عنده الخلق، لكن ما جاء بعد ذلك اختلف عما جاء في الرسالات السماوية بما يعني أنه كان هناك من عكف وصاغ النظرية بما يناسب عقلية تريد أن تفهم كيف جاء ذلك الخلق؛ وكانت نظرية عين شمس هي الأقدم وقد استمرت طوال حكم الأسرات المصرية حتى وإن خبت فتراجعت في بعض الأحيان فإنها كانت تقوم وتعود قوية من جديد.
في عصر الدولة القديمة ظل "رع" هو الإله الأول، والدارس لعقيدة تلك الفترة سوف يلاحظ احتواء أسماء كثير من ملوكها على اسم رع مثل الملوك "جدف رع"، و “خعفرع"، و “منكاورع" ألخ، وسيعرف أن الأهرامات كانت رموزاً لتلك العبادة، فهرم الملك "جسر نثر خت" المدرج كان سلماً يرتقيه صاحبه إلى السماء، والهرم الكامل هو فيض أو قيس من ضياء الإله، ولما بنيت معابد الشمس واستبدل الهرم بالمسلة كانت المسلة برأسها الهرمية المدببة تقف شامخة وهي تشير بسنها المتوهج بضوء الشمس إلى السماء حيث يسكن ذلك الإله الذي يدير شأن العالم من عل، بل وكان الأسد من الحيوانات المرتبطة بالشمس ومن هنا جاء تمثال أبي الهول بالهيئة التي نحت بها أمام مجموعة الملك خعفرع الهرمية بهضبة الجيزة
وقد ظل "رع" هو الأبرز وديانته هي الأولى حتى نافسه "آمون" اعتباراً من عصر الدولة الوسطى والتصق اسمه هو الآخر بأسماء كثير من ملوكها الذين حملوا اسم “إمنمحات” بمعنى آمون في الصدارة أو في المقدمة، حتى برز بقوة وتسيد لفترة في عصر الدولة الحديثة والتصق بأسماء البعض ممن حملوا اسم “أمنحوتب” بمعنى عطية أو هبة آمون، وذلك قبل أن يعود "رع" من جديد بزخمه وقوته فآخى المصريون بين الإلهين وبرز لنا إله جديد هو "آمون رع"، وقد عاد اسم رع ليلتصق بأسماء الملوك من جديد ومنهم الملوك الرعامسة بالطبع.
وعلى الرغم من كثرة وتعدد أسماء المعبودات أو ما سماهم الباحثون بالأرباب إلا أن المصري القديم استطاع أن يدير تلك المنظومة ويفسرها بما يرضي نفسه التواقة إلى المعرفة، وإلى الاحتكام إلى شريعة تنظم العلاقة بين البشر وبين الخالق، أي بين العابد والمعبود أملاً في الجنة الموعودة وحقول "إيارو" حيث النعيم الأبدي، ولم يحدث أن تصادم معتقد مع آخر إلا في تلك المرة التي نادى فيها إخناتون بإله رآه هو الواحد، والأحق بأن يعبد وحده دون شريك، ولم يكن ذلك المعبود جديداً بل كان مظهراً من مظاهر ديانة الشمس التي عادت قوية جنباً إلى جنب مع ديانة “آمون” في عصر الدولة الحديثة.
“يتبع”