الإثنين 30 يونيو 2025 01:40 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

مروة نايل تكتب : عالم بلا وجوه، كيف جُرّدنا من واقعنا؟

الكاتبة مروة نايل
الكاتبة مروة نايل

قبل سنوات، لم يكن يخطر ببال أحد أن تصبح الحياة شاشة مضيئة، وأن يتحول البشر إلى رموز رقمية تسبح في فضاء افتراضي بلا ملامح، لم ننتبه ونحن نهرول طواعية خلف السرعة والراحة والاتصال، حتى وجدنا أنفسنا سجناء عالم لم نصنعه، بل صُنع لنا بخطة صامتة، تكتبها أيد لا ترى في الإنسان سوى رقم أو بيانات مستخدم.

في كل تحديث جديد، كنا نظن أننا نتقدم، بينما كنا دون أن ندري نبتعد عن أنفسنا، التطبيقات لم تأت لتخدمنا فقط، بل جاءت لتعيد تشكيل طريقة تفكيرنا، أسلوب حياتنا، بل حتى وعينا، في البداية، بدا كل شيء رائعًا، رسائل فورية، تسوق بضغطة، تعليم بلا فصول، وعمل من المنزل، لكن الثمن الخفي كان باهظًا، صرنا نعبر الحياة داخل مستطيلات مضيئة، لا نرى فيها الوجوه، ولا نسمع الأصوات كما هي، نعيش داخل عوالم صُممت بعناية لا تراعي أرواحنا، نستهلك ما يُعرض أمامنا، ونشارك ما يُسمح لنا بمشاركته، بينما تُصاغ مشاعرنا واختياراتنا وفق ما تريده الخوارزميات.

ثم جاءت جائحة كورونا، لا كأزمة صحية فقط، بل كبروفة عالمية لإعادة هيكلة الحياة، أجبرتنا على العيش عن بعد، فصرنا نتعلم، ونعمل، ونتواصل من خلف الشاشات، وخلال عام واحد، اختُزلت العلاقات، وتبخرت اللمسات، واختفت الوجوه، أصبح اللا اتصال هو الشكل الجديد للاتصال، واقع جديد وُلد من رحم الأزمة، لكنه بقي بعد انتهائها، كأن الجائحة كانت المفتاح النهائي لإغلاق الباب على العالم القديم.

لم نعد نعيش ببراءة، كل نقرة، كل إعجاب، كل تعليق، أصبح مادة خام تُباع وتُشترى، نحن الآن مستخدمون، لا أشخاص، نغذي الأنظمة ببياناتنا، فتبني عوالم مصممة خصيصًا لنا، أو بالأحرى، لنا كما يتخيلنا الذكاء الاصطناعي، حتى الحميميات باتت مصطنعة، نُخبر بعضنا بالحب عبر رموز، ونواسي بعضنا في الفقد عبر تعبير رقمي باهت، لقد أصبحنا نعيش حياة مصممة، لا مختارة.

قد يبدو المشهد قاتمًا، لكن السؤال لا يزال مفتوحًا، هل يمكن التراجع؟ هل يمكن استعادة ما فقدناه؟ العودة الكاملة قد لا تكون ممكنة، لكن استعادة التوازن ما زالت في متناول اليد، ظهرت في السنوات الأخيرة مبادرات تدعو إلى الانفصال المؤقت عن الأجهزة، وإلى إعادة الاعتبار للعلاقات الواقعية، هناك مدارس تعيد إحياء التعليم التفاعلي غير المعتمد كليًا على الشاشات، ومجتمعات بدأت تعي أن التكنولوجيا، رغم أهميتها، لا يجب أن تلتهم كل شيء، حتى داخل المنظومة الرقمية، هناك من يسعى لتطويع الذكاء الاصطناعي ليكون في خدمة الإنسان، لا العكس، الاتصال لا يجب أن يكون نقيضًا للعلاقة، والتكنولوجيا لا ينبغي أن تكون بديلاً عن الإنسان.

لسنا مضطرين إلى أن نختار بين أن نكون جزءًا من العصر أو أن نعيش خارجه، الخيار الأذكى هو أن نعيش فيه دون أن نذوب فيه، أن نمسك الهاتف، دون أن يمسك بنا، أن نختار، لا أن نُختار، فالعالم قد تغيّر، نعم، لكننا لم نفقد إنسانيتنا بالكامل بعد، ما زال هناك وجه خلف الشاشة، وقلب خلف الصورة، وصوت خلف النص، والسؤال الحقيقي ليس، هل نستطيع العودة؟ بل، هل نملك الشجاعة لنقول، كفى، أريد أن أكون إنسانًا من جديد؟

مروة نايل عالم بلا وجوه كيف جُرّدنا من واقعنا؟ الجارديان المصرية