شحاتة زكريا يكتب : بين طهران وواشنطن وتل أبيب.. من يدفع الثمن السياسي؟


فى هذا الجزء المشتعل من العالم لم يعد الصراع يدور حول أراضٍ أو موارد ، بل بات يدور حول من يملك سرد الحكاية ومن يفرض كلمته الأخيرة في مشهد مفتوح على كل الاحتمالات. واشنطن ما تزال تمسك بمقود السياسات الكبرى من بعيد، تحرّك خيوط اللعبة دون أن تغوص في مستنقعها وطهران تتفنن في حياكة المشهد على نار هادئة ، بينما تل أبيب تعيش على هاجس الخوف من الآخرين وتستثمر في هذا الخوف سياسيا وعسكريا وحتى انتخابيا.
لا أحد يربح كل شيء ، ولا أحد يخسر كل شيء ، لكنّ هناك من يدفع الفاتورة كاملة: الشعوب. في كل مرة يرتفع فيها صوت طبول الحرب أو تُنشر طائرات مسيّرة أو تتسرب معلومات عن ضربة محتملة أو تسوية مرتقبة يكون هناك مَن على الأرض ينتظر مصيره في صمت: طفل ينام على صوت الانفجارات ، وأم تتنقل بين الملاجئ ، وبلد لا يعرف هل غده أفضل من يومه أم نسخة أشدّ بؤسًا.
الولايات المتحدة لم تعد تتورط بجنودها لكنها لا تتوقف عن تحريك الآخرين كأحجار على رقعة الشطرنج. لا تريد حروبا تُحرجها في الداخل لكنها تدعم كلّ ما يُبقي يدها العليا في الخارج. تحافظ على إسرائيل كأولوية في السياسات وتُبقي إيران في دائرة الضغط دون بلوغ الانفجار ، وتراقب الخليج بميزان الذهب. تُفاوض من بعيد وتُلوّح من قريب ، لكنها لا تقطع الخيط مع أحد. هي ليست في معركة مباشرة ، لكنها ترسم حدودها وتمنح أوراق الاعتماد لمن تشاء.
أما إيران فهي تلعب لعبة النفس الطويل. لا تندفع لكنها لا تتراجع. تُراكم نفوذها في المنطقة عبر شبكات وتحالفات عابرة للحدود وتقدّم نفسها كلاعب لا يمكن تجاوزه. تُمسك العصا من منتصفها: تهدد بالسلاح النووي وتدعو للتفاهم تُناور بالعقوبات وتوظّفها لخلق خطاب تعبوي وتُجيد إدارة الوقت أكثر من إدارة الصراع نفسه. تسعى لتوسيع النفوذ وتعرف أن الصبر في هذه المنطقة أثمن من الذخيرة.
تل أبيب تعيش من أجل الحرب لا لأنّها تطلبها بل لأنها ورقتها السياسية الأقوى. كلما تأزمت الحكومة داخليا، أو تصاعدت أزماتها مع الخارج ، تلجأ للعدو الخارجي. إيران هي المبرر الدائم للقلق، وللتوسع، وللقمع، وحتى للاستمرار في السلطة. لكن هذا القلق صار يستنزف إسرائيل أكثر مما يحميها وبدأت النغمة القديمة تفقد تأثيرها في عواصم القرار العالمي، التي باتت تراقب ولا تصدّق كل شيء. إسرائيل في سباق مع الزمن ليس من أجل البقاء ولكن من أجل استعادة صورة الدولة التي تُفرض لا تلك التي تتوسل الدعم.
بين كل هذا الضجيج هناك من يدفع الثمن سياسيا واقتصاديًا، وإنسانيًا. هناك من يُحرم من مستقبل طبيعي ومن حق الحياة، ومن الأمان. هناك دول فقدت معناها وحدودها، وشعوب هجّرتها الحروب ومجتمعات تمزّقت بين الولاء لهذا المحور أو ذاك دون أن تختار. في زمن الصفقات الكبرى، لا صوت يُسمع لمن يسكنون الأطراف ولا اعتبار لمن يحلمون بالحد الأدنى من السلام.
مصر، التي تدرك خطورة أن تكون جزءا من هذا الصراع، اختارت أن تحمي استقرارها لا أن تبيعه في مزاد السياسة الدولية. اختارت أن تدير علاقاتها بحذر وأن تبني مكانتها بالهدوء لا بالصراخ بالثبات لا بالتقلب بالاستثمار في الأمن والاقتصاد لا في المغامرات العسكرية. لا تهتف مع أحد، ولا تصفق لأحد بل تسير على خيط رفيع من التوازن تدرك أنه السبيل الوحيد للبقاء كقوة عاقلة وسط بحر هائج من الغرائز والصراعات.
المعادلة الآن أعقد مما كانت عليه قبل سنوات. لم تعد السياسة تقوم على وضوح العدو والصديق ، بل على مَن يستطيع أن يتحرك دون أن يُجرّ إلى المعركة. المنطقة لم تعد تحتمل انفجارات جديدة ولا الشعوب مستعدة لتكرار المآسي. ولكن يبدو أن كثيرا من اللاعبين الكبار لم يفهموا بعد أن الرهان الحقيقي ليس على من يربح الحرب ، بل على من يمنعها من الحدوث.
إذا استمرت المنطقة تدور في هذه الدوائر الجهنمية ، فإن الخسائر لن تقتصر على الخرائط بل ستمتد إلى الإنسان ذاته، إلى قيمه، إلى أمنه ، إلى قدرته على الحلم. الثمن الحقيقي تدفعه أجيال لم تعرف يومًا طبيعيا ولا عرفت من السياسة إلا وجهها القبيح.
يبقى السؤال: هل يمكن أن تعود العقلانية إلى طاولة القرار؟ هل من الممكن أن يصبح السلام خيارا سياسيا لا وصمة ضعف؟ وهل تستطيع دول المنطقة أن تفكر خارج المربع الأمريكي – الإيراني – الإسرائيلي، لتصوغ معادلة تخصها وتناسب شعوبها؟ حتى الآن الجواب مؤجل وربما مؤلم.
في هذا الجزء المشتعل من العالم لم يعد الصراع يدور حول أراضٍ أو موارد ، بل بات يدور حول من يملك سرد الحكاية ومن يفرض كلمته الأخيرة في مشهد مفتوح على كل الاحتمالات. واشنطن ما تزال تمسك بمقود السياسات الكبرى من بعيد، تحرّك خيوط اللعبة دون أن تغوص في مستنقعها وطهران تتفنن في حياكة المشهد على نار هادئة ، بينما تل أبيب تعيش على هاجس الخوف من الآخرين وتستثمر في هذا الخوف سياسيا وعسكريا وحتى انتخابيا.
لا أحد يربح كل شيء ، ولا أحد يخسر كل شيء ، لكنّ هناك من يدفع الفاتورة كاملة: الشعوب. في كل مرة يرتفع فيها صوت طبول الحرب أو تُنشر طائرات مسيّرة أو تتسرب معلومات عن ضربة محتملة أو تسوية مرتقبة يكون هناك مَن على الأرض ينتظر مصيره في صمت: طفل ينام على صوت الانفجارات ، وأم تتنقل بين الملاجئ ، وبلد لا يعرف هل غده أفضل من يومه أم نسخة أشدّ بؤسًا.
الولايات المتحدة لم تعد تتورط بجنودها لكنها لا تتوقف عن تحريك الآخرين كأحجار على رقعة الشطرنج. لا تريد حروبا تُحرجها في الداخل لكنها تدعم كلّ ما يُبقي يدها العليا في الخارج. تحافظ على إسرائيل كأولوية في السياسات وتُبقي إيران في دائرة الضغط دون بلوغ الانفجار ، وتراقب الخليج بميزان الذهب. تُفاوض من بعيد وتُلوّح من قريب ، لكنها لا تقطع الخيط مع أحد. هي ليست في معركة مباشرة ، لكنها ترسم حدودها وتمنح أوراق الاعتماد لمن تشاء.
أما إيران فهي تلعب لعبة النفس الطويل. لا تندفع لكنها لا تتراجع. تُراكم نفوذها في المنطقة عبر شبكات وتحالفات عابرة للحدود وتقدّم نفسها كلاعب لا يمكن تجاوزه. تُمسك العصا من منتصفها: تهدد بالسلاح النووي وتدعو للتفاهم تُناور بالعقوبات وتوظّفها لخلق خطاب تعبوي وتُجيد إدارة الوقت أكثر من إدارة الصراع نفسه. تسعى لتوسيع النفوذ وتعرف أن الصبر في هذه المنطقة أثمن من الذخيرة.
تل أبيب تعيش من أجل الحرب لا لأنّها تطلبها بل لأنها ورقتها السياسية الأقوى. كلما تأزمت الحكومة داخليا، أو تصاعدت أزماتها مع الخارج ، تلجأ للعدو الخارجي. إيران هي المبرر الدائم للقلق، وللتوسع، وللقمع، وحتى للاستمرار في السلطة. لكن هذا القلق صار يستنزف إسرائيل أكثر مما يحميها وبدأت النغمة القديمة تفقد تأثيرها في عواصم القرار العالمي، التي باتت تراقب ولا تصدّق كل شيء. إسرائيل في سباق مع الزمن ليس من أجل البقاء ولكن من أجل استعادة صورة الدولة التي تُفرض لا تلك التي تتوسل الدعم.
بين كل هذا الضجيج هناك من يدفع الثمن سياسيا واقتصاديًا، وإنسانيًا. هناك من يُحرم من مستقبل طبيعي ومن حق الحياة، ومن الأمان. هناك دول فقدت معناها وحدودها، وشعوب هجّرتها الحروب ومجتمعات تمزّقت بين الولاء لهذا المحور أو ذاك دون أن تختار. في زمن الصفقات الكبرى، لا صوت يُسمع لمن يسكنون الأطراف ولا اعتبار لمن يحلمون بالحد الأدنى من السلام.
مصر، التي تدرك خطورة أن تكون جزءا من هذا الصراع، اختارت أن تحمي استقرارها لا أن تبيعه في مزاد السياسة الدولية. اختارت أن تدير علاقاتها بحذر وأن تبني مكانتها بالهدوء لا بالصراخ بالثبات لا بالتقلب بالاستثمار في الأمن والاقتصاد لا في المغامرات العسكرية. لا تهتف مع أحد، ولا تصفق لأحد بل تسير على خيط رفيع من التوازن تدرك أنه السبيل الوحيد للبقاء كقوة عاقلة وسط بحر هائج من الغرائز والصراعات.
المعادلة الآن أعقد مما كانت عليه قبل سنوات. لم تعد السياسة تقوم على وضوح العدو والصديق ، بل على مَن يستطيع أن يتحرك دون أن يُجرّ إلى المعركة. المنطقة لم تعد تحتمل انفجارات جديدة ولا الشعوب مستعدة لتكرار المآسي. ولكن يبدو أن كثيرا من اللاعبين الكبار لم يفهموا بعد أن الرهان الحقيقي ليس على من يربح الحرب ، بل على من يمنعها من الحدوث.
إذا استمرت المنطقة تدور في هذه الدوائر الجهنمية ، فإن الخسائر لن تقتصر على الخرائط بل ستمتد إلى الإنسان ذاته، إلى قيمه، إلى أمنه ، إلى قدرته على الحلم. الثمن الحقيقي تدفعه أجيال لم تعرف يومًا طبيعيا ولا عرفت من السياسة إلا وجهها القبيح.
يبقى السؤال: هل يمكن أن تعود العقلانية إلى طاولة القرار؟ هل من الممكن أن يصبح السلام خيارا سياسيا لا وصمة ضعف؟ وهل تستطيع دول المنطقة أن تفكر خارج المربع الأمريكي – الإيراني – الإسرائيلي، لتصوغ معادلة تخصها وتناسب شعوبها؟ حتى الآن الجواب مؤجل وربما مؤلم.