شحاتة زكريا يكتب: السياحة السياسية.. كيف أصبحت الدبلوماسية المصرية بوابة لجذب الاستثمار؟


في لحظة عالمية تتشابك فيها السياسة بالاقتصاد ويتقاطع فيها الاستثمار مع النفوذ أدركت مصر بذكاء أنها لا تملك رفاهية الفصل بين ملفاتها الخارجية ومصالحها الداخلية. لم تعد الدبلوماسية مجرد وسيلة لتبادل التهاني أو توقيع البروتوكولات بل غدت أداة استراتيجية لإعادة تشكيل خريطة المصالح وفتح أبواب الاستثمار وطرح الفرص على مائدة الشركاء الدوليين.
من هنا ولدت مدرسة مصرية جديدة يمكن تسميتها بـ"السياحة السياسية"؛ ليس لأنها تعتمد على الترف أو المجاملة بل لأنها تمزج بين الحركة الذكية على مسرح السياسة الدولية وترويج الصورة الشاملة لمصر كوجهة مستقرة جاذبة ومؤهلة لأن تكون مركزا للإنتاج واللوجستيات والطاقة في شرق المتوسط والقارة الأفريقية.
لقد نجحت القاهرة في تحويل اللقاءات الرئاسية والقمم الإقليمية والمنتديات الدولية، إلى منصات لتسويق الفرصة المصرية ونقل صورة دقيقة عن أولوياتها التنموية ومناخها الاستثماري. في كل زيارة رئاسية إلى الخارج تُفتح ملفات الطاقة الخضراء، والموانئ، والسياحة، والتصنيع، والبنية التحتية. وفي كل لقاء ثنائي تُطرح الفرص المتاحة أمام الشراكات الواعدة في وقت تعاني فيه كثير من الدول من ندرة الأسواق المستقرة ومراكز التوريد المؤمنة.
أبرز ما يميز هذه الصيغة الجديدة من الدبلوماسية أنها ليست عاطفية، ولا ترتكز على التاريخ وحده بل تنطلق من مصلحة وطنية واضحة وصياغة علاقات خارجية على قاعدة: "نحن منفتحون على الجميع، لكن بشروط تحمي سيادتنا وتخدم تنميتنا".
ومن يراجع خريطة التحركات المصرية في السنوات الأخيرة، سيجد أن الحضور في القمم الاقتصادية الكبرى مثل "G20"، و"BRICS"، وقمم الاستثمار الأوروبي والأفريقي لم يكن مجرد مشاركة رمزية، بل كان اصطفافا ذكيا في دوائر جديدة من الشراكة الدولية فتحت لمصر مجالات تمويل وتكنولوجيا وأسواق غير تقليدية.
كما أن استضافة مصر لمؤتمرات كبرى مثل قمة المناخ COP27" في شرم الشيخ ، لم يكن نجاحًا بيئيًا فقط بل كان استثمارا سياسيا واقتصاديا، أتاح عقد عشرات الاتفاقيات وعرضت مصر من خلاله نموذجًا متكاملا للربط بين التنمية المستدامة والمناخ والاستثمار.
كل هذا التحرك الخارجي لم يكن معزولا عن إصلاح داخلي هيكلي بدأت فيه الدولة منذ سنوات ، لتحسين بيئة الاستثمار وتحديث البنية التحتية وتهيئة مناخ قانوني وتشريعي جاذب. فالدبلوماسية لا تُثمر إلا إذا كانت التربة صالحة والعرض المصري أصبح أكثر تنافسية بعد أن توافر فيه عنصر الاستقرار، ووضوح الرؤية، وجرأة التنفيذ.
إن ما يحدث ليس مجرد علاقات عامة بل إعادة تعريف لدور السياسة الخارجية في خدمة الداخل حيث تُوظَّف كل زيارة، وكل لقاء وكل مشاركة في جذب المستثمر وتبديد شكوك المترددين وتحويل التحديات إلى فرص.
ومع صعود أزمات عالمية مثل الحرب الروسية الأوكرانية، والتوتر في مضيق تايوان وتغير مسارات التجارة وسلاسل الإمداد باتت مصر – بموقعها الاستراتيجي وسياستها المتزنة وشبكة علاقاتها المتنوعة – إحدى أكثر الوجهات أمانا وجاذبية للرأسمال الباحث عن الاستقرار والربحية معًا.
إنها لحظة مختلفة تُكتب فيها السياسة الخارجية المصرية بأدوات الاقتصاد وتُرسم فيها خريطة الاستثمار بألوان الدبلوماسية.
ولعل الدرس الأهم هنا: أن الدولة التي تعرف كيف تتحرك في الخارج هي الدولة التي تستطيع أن تبني الداخل بثقة وذكاء.