الجمعة 22 أغسطس 2025 08:41 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

مروة نايل تكتب : تيتا لورا الأسطورة

الكاتبة مروة نايل
الكاتبة مروة نايل

في عصر يوم دافئ، كانت الجدة تقف وحدها في المطبخ.
وجهها لوحة من الزمن،التجاعيد تنسج خرائط عمرها حول عينيها، وخطوط التعب تستقر على وجنتيها كأنها لم تغادرهما منذ سنوات.
رائحة الطعام تغلي في القدور، والبخار يتصاعد ليعانق الضوء المتسلل من النافذة، حيث تلامس الشمس جدران البيت بأشعتها المائلة للغروب، كما لو كانت تودعه على مهل.
ماء دافئ ينهمر من الصنبور، وصوت الصحون المتراصة يتداخل مع خفة أنفاسها.
يديها تتحركان ببطء بين غسل وطبخ، لكن عينيها ليستا هنا.
وجهها هادئ... هدوء اعتادت عليه بعد سنوات من التكرار.
وجه يشبه تلك البيوت التي لم تغادرها الحياة، لكنها فقدت الزوار.
تُرتب الأطباق، تحرك الملعقة في القدر، وتغسل، ثم تمسح، ثم تعيد الكرة.
لا شيء خارج عن المألوف...
مجرد يوم آخر، يشبه الذي سبقه، ويُشبه الذي سيأتي.
بين حركاتها المتقنة، لحظة شرود.
عيناها تستقران على النافذة، لا تنظران إلى شيء، فقط تغرقان في الفراغ.
ربما فكرت في أولادها الذين غادروا البيت واحدًا تلو الآخر، أو في زوجها الذي رحل بهدوء منذ سنوات، وترك لها هذا البيت، وهذا المطبخ، وهذه العادة الصباحية المسائية التي لا تتغير.
أو ربما كانت تفكر في لا شيء.
أحيانًا... الوحدة لا تحتاج مبررًا لتستقر.
لكن في وسط هذا الركود العاطفي، كان هناك شيء واحد ما زال يملأ قلبها بحياة حقيقية، حفيدها الصغير.
هو الذي يأتي كل يوم بعد المدرسة، يملأ البيت بالحركة، ويترك ضحكته معلّقة في الزوايا حتى بعد أن يرحل،
اليوم، كعادته، يلعب في الحديقة.
صوت ضحكاته يتسلل من الخارج، يتخلل سكون البيت، ويمنح اللحظة دفئا لا تصنعه الشمس.

في الحديقة، كانت الكرة تتدحرج بين قدميه الصغيرتين.
يركض خلفها، يتعثر، يضحك، يسقط على العشب ويقوم من جديد، كأن السقوط لا يعني شيئًا.
لا يهتم برباط حذائه المفكوك، ولا بجوربه المنزلق، ولا بقمصيه الخارج من بنطاله الصغير ،شعره مبعثر، لكنه لا يكترث. كل ما يشغل قلبه هو تلك الكرة الحمراء التي تسابقه في كل الاتجاهات.
ركلة خاطفة...
قفزت الكرة فجأة، مرت فوق العشب، وتدحرجت بعيدًا… إلى الجهة الخلفية.
نحو الجراج.
هرول خلفها بحماسة، لا يرى إلا لونها الساطع تحت وهج الغروب.
اقترب، انحنى، انزلقت الكرة تحته.
هناك، تحت السيارة القديمة التي لم تتحرك منذ أيام.
لا تردّد... لا خوف.
زحف بجسمه الصغير، مدّ ذراعه تحت الهيكل البارد.
لكن فجأة…
اهتزت الأرض تحته.
السيارة تحركت.
انزلقت في لحظة خاطفة، كأنها استيقظت من سباتها، وسقط أحد إطاراتها بثقلٍ مرعب فوق زراعه.
صرخة!
صوت حاد… كأن الروح انتُزعت منه.
صرخة صغيرة… لكنها كانت كافية لتمزق السكون.

في الداخل، عند الحوض، كانت لا تزال تغسل آخر طبق.
توقفت.
انكمش قلبها فجأة.
الهواء الذي يملأ المطبخ تغيّر، كأن شيئًا غير مرئي قد انفجر.
التفتت برأسها، لا تدري لماذا… لكن شيئًا بداخلها كان يعلم.
ثم سمعته.
الصوت.
الصرخة التي لم تكن مجرد صوت… بل سهم في صدرها.
وقع الطبق من يدها، تكسّر.
شهقت.
ركضت.
لم تغلق الماء، لم تطفئ الموقد، لم تلتقط شيئًا.
قدماها عرفتا الطريق، قلبها صار هو الذي يقود.
الحديقة.
الصوت يأتي من هناك… لا، أبعد… الجراج!
ركضت، الأرض تختفي تحت قدميها.
كأن الزمن كله يركض معها.
ووصلت.
ثم... توقفت.

تجمّدت.
عيناها اتسعتا… ونظرت.
كان هناك، ملقى تحت السيارة، يبكي بحرقة، ذراعه محشورة، الدم يسيل على التراب، وصوته يصرخ:
"أنقذيني ياجدتي"
لم تستطع أن تتحرك.
الهواء تقلص في رئتيها، والضوء غاب من عينيها، والمشهد أمامها كأنه حلم سيئ لا تستوعبه.
وفي داخله...
شريط من حياة مضت.
تعب، حرمان، لحظات خذلت فيها نفسها، أيام شعرت أنها غير كافية…
كل مرة قالت فيها "لا أستطيع " مرت أمام عينيها كأنها تحدث الآن.
لكنها لم تكن تملك الوقت لتفكر.
كان صوته ما زال ينادي… ودموعه تنادي أكثر.
فجأة… تحركت.
اقتربت.
وضعت يدها تحت هيكل السيارة.
لم تكن تعرف ما تفعل… فقط فعلته.
شدت بيدها اليمنى… دفعت بجسمها كله… صاحت:
" يجب أن أنقذه بأي طريقة!"
لم تسأل كيف.
لم تتذكر عمرها، ولا ضعفها، ولا الألم في ظهرها…
رفعت السيارة.
وباليد الأخرى… سحبت حفيدها.
انزلق خارجا، ارتطم بحضنها، وانكفأت هي على الأرض…
جسدها يرتجف، تنفّسها متقطّع، وعيناها تدمع.

في تلك الليلة، لم تنم.
جلست وحدها، على الكرسي ذاته الذي جلست عليه آلاف المرات.
لكن كل شيء اختلف.
كل ما فيها يرتجّ، ليس من الخوف… بل من شيء أعمق.
لم تصدق ما حدث.
لم تصدق أنها فعلت ذلك.
وفي قلب اللحظة، سؤال ظل يهمس في داخلها…
"كم من الأشياء التي كان بإمكاني فعلها في حياتي… ولم أفعلها، فقط لأنني افترضت أنني لا أستطيع؟"

مرت ساعات بعد الحادث، لكنها لم تشعر بالزمن.
كان المنزل صامتًا… صمت ثقيل كأنه لا يعرف كيف يتعامل مع ما حدث.
الحفيد نائم الآن في غرفته، ضماد خفيف يلف قدمه الصغيرة، وعيناه الغافلتان ما زالتا حمرتيْن من البكاء.
أما هي، فكانت في الغرفة المجاورة.
جالسة على طرف السرير، يداها فوق ركبتيها، وكتفاها منحنيان قليلاً، كأنّ الجسد بدأ يستوعب ما فعله منذ قليل.
لا صوت.
فقط قلب ينبض ببطء، وداخلها ضجيج لا يهدأ.
نظرت إلى يديها.
كانت يداها ترتجفان…
ذات اليدين اللتين غسلت بهما الصحون طوال سنين، وربت بهما أولادها، وسندت بهما ظهر البيت وقت التعب.
كيف...؟ كيف رفعت بهما سيارة؟
أكانت تلك قوة خارقة؟
معجزة؟
صدفة؟
لم تكن تحتاج إلى تفسير.
ما حدث لم يكن "حدثًا" فقط…
كان شيئًا آخر... شيء بداخلها استيقظ بعد عمرٍ طويل من السبات.
ظلت تحدّق في يديها كأنها تراهما لأول مرة، ثم خفضت رأسها، والدموع هبطت دون إذن.
لكنها لم تكن دموع خوف، ولا ألم، ولا صدمة.
كانت شيئًا آخر…
دموع من فهِم متأخرًا.
وبين شهقة وشهقة، خرج منها السؤال الذي ظل حبيس القلب لسنين:
"كم مرة قلت لنفسي: اليس قادرة ؟"
"كم باب أغلقته بيدي… قبل أن أحاول فتحه؟"
كانت تعرف الجواب…
وتعرف كم من الوقت ضاع.
لكنها هذه المرة، لم تسمح للحزن أن يُكمل الطريق.
رفعت رأسها.
وبنبرة لم تعرفها في صوتها من قبل، همست:
" الوقت لم ينتهي بعد ، ومازال في العمر بقية ."
بعد فترة من الحادث، عُرفت قصتها وانتشرت صورها وهي ترفع السيارة بيديها العاريتين رغم آلام المفاصل التي كانت تعانيها.
لم تكن عضلة خارقة ولا رافعة أثقال…
كانت جدة أمريكية تدعى "لورا شولتز" تبلغ من العمر 63 عامًا، لم تدخل ناديًا رياضيًا من قبل.
الذي فعلته كان من الخوف على حفيدها، والذي أيقظ قوة خارقة كانت نائمة داخله.
لكن الغريب… أنها لم تكن فخورة. بل حزينة.
في مقابلة صحفية أجريت معها سُئلت:
"لماذا الحزن بعد هذا الإنجاز البطولي؟"
فأجابت بهدوء:
"اكتشفتُ أنني كنت قادرة طوال حياتي،
لكن خوفي من الفشل كان يمنعني.
في تلك اللحظة لم أجرّب… بل كنت مؤمنة أنني أستطيع.
والأصعب أنني أدركت هذا متأخرة!"

منذ تلك اللحظة، قررت أن تعود للدراسة.
وفي عمر السبعين، أصبحت أستاذة جامعية تحقق حلم عمرها.
قالت في أكثر من لقاء تلفزيوني:
"القيود الحقيقية ليست في الجسد،
بل في عقل لا يؤمن بقدراته."
وأردفت بنصيحة لكل من يسمع قصتها:
"لا تنتظر لحظة أزمة لتكتشف قوتك…
آمن بنفسك اليوم، وابدأ."
وفي بيتها القديم، كانت تجلس على المقعد ذاته، لكنه لم يعد مقعد "العادة"، بل مقعد "الإنجاز".
وحفيدها، صار شابًا.
جلس بجوارها يومًا، وسألها:
جدتي ..كيف فعلتي ذلك؟ كيف رفعتي السيارة؟"
نظرت إليه، بعينين امتلأتا بالحياة، وقالت:
"لم أكن أقوى جسديًا…
كنت أقوى داخليًا.
والمفاجأة؟
هذه القوة كانت دائمًا في داخلي… لكنني لم أكن أراها."
في تلك اللحظة،
لم ترفع السيارة… بل رفعت الستار عن نفسها.

أدركت أن القوة لم تكن في يديها،
بل في اليقين الذي نهض بداخلها دون إذن.

فبعض اليقين…
لا يُولد إلا على حافة الخطر أو الاضطرار.

مروة نايل تيتا لورا الأسطورة الجارديان المصرية