الجمعة 22 أغسطس 2025 08:36 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. نهال أحمد يوسف تكتب :الحمار ليس حمارًا

د. نهال أحمد يوسف
د. نهال أحمد يوسف

في لغتنا العامية اليومية، تتوارى مفارقات عجيبة تعكس لا وعينا الجمعي فحسب، بل وتكشف عن نزوع بشري متأصل نحو الإسقاط والتعالي. ولعل كلمة "يا حمار"، التي تتردد على الألسنة بوصفها وصمًا للغباء أو قلة الفهم، هي إحدى أشد هذه المفارقات إيلامًا وفلسفة. فكيف لكائن لطالما كان سندًا وعضدًا للإنسان عبر العصور، أن يصبح رمزًا للجهالة في قاموسنا اللغوي، بينما هو في حقيقة أمره يحمل من الفطنة والصبر والذكاء العملي ما يجل عن الوصف؟
إن النظرة السطحية للحمار قد توحي بالبلادة أو العناد، غير أن الغوص في جوهر هذا الكائن يكشف عن عمق لا يدركه إلا من تأمل سلوكه بعين الإنصاف. فالحمار ليس كائنًا غبيًا؛ إنما هو كائن ذكي عمليًا، يمتلك ذاكرة فذة للطرق والوجوه، وقدرة مذهلة على التكيف مع أقسى الظروف وأوعر المسالك. ذلك "عناده" المزعوم ليس إلا تجليًا لحسه العالي بالبقاء وفطنته في تقدير المخاطر؛ فهو لا يقدم على ما يراه مهلكًا، ولا يجبر على السير في دروب لا يدرك غايتها أو يحس بخطورتها. هذه الصفة، التي تفسر خطأ على أنها غباء، هي في الواقع حكمة تفتقر إليها الكثير من الكائنات، بما في ذلك البشر أحيانًا، حين يندفعون نحو المجهول دون تبصر.
لقد كان الحمار، ولا يزال، رمزًا للصبر والجلد والتفاني. فكم من أثقال حملها، وكم من دروب وعرة اجتازها، وكم من أجيال خدمها بإخلاص لا يتزعزع، دون شكوى أو تذمر. إنه كائن يدرك مهمته وينجزها بكفاءة مذهلة، معتمدًا على غريزته الفطرية وذكائه العملي الذي يتجلى في كل خطوة يخطوها. هذه الصفات، من التحمل والوفاء والاجتهاد الصامت، هي قيم نبيلة قلما نجدها مجتمعة في كائن واحد، وهي ذاتها القيم التي نسعى لغرسها في أبنائنا ونثني على من يتحلى بها من البشر.
وهنا تكمن المفارقة الفلسفية الكبرى: كيف لنا، كبشر، غالبًا ما نعاني من نقص الصبر، ونخطئ في تقدير الأمور، ونقدم على حماقات تشير إلى ضعف بصيرتنا، أن نطلق على هذا الكائن الفطين لقب "الحمار" كمرادف للغباء؟ هل هو إسقاط لجهلنا على من نسيطر عليه؟ أم هو محاولة لتطهير ذواتنا من صفات ندرك وجودها فينا، فنلقي بها على كاهل كائن آخر لنبرئ أنفسنا؟
إن استخدام كلمة "حمار" كشتيمة ليس ظلمًا لهذا الكائن وحسب، وإنما هو انعكاس لفهم قاصر للذكاء البشري نفسه. فالذكاء ليس مجرد قدرة على التجريد أو التعقيد اللغوي، وإنما هو أيضًا القدرة على البقاء، والتكيف، والخدمة، والفهم العملي للعالم. والحمار، بكل ما يمتلكه من صفات، يجسد هذا النوع من الذكاء بامتياز.
يمتد هذا المفهوم الإسقاطي ليشمل كائنات أخرى تستخدم في لغتنا لوصم البشر، مثل "يا كلب" للدلالة على الخسة أو الغدر، في حين أن الكلب يعرف بوفائه الشديد وإخلاصه للإنسان. وكذلك عبارة "يا بقرة" التي تطلق على من يتهم بالبلادة أو السمنة، متناسين أن البقرة كائن منتج حيوي يسهم في رفاهية الإنسان بالغذاء. إن هذه الإسقاطات اللغوية تكشف عن ميل فطري لدينا لصق السلبيات التي نراها في أنفسنا أو في الآخرين بما هو "أدنى" في سلم الوعي، بدلًا من مواجهة تلك السلبيات بشجاعة وإصلاحها.
لربما حان الوقت لنعيد النظر في مفرداتنا، لا لتطهير اللغة فحسب، وإنما لتطهير وعينا. فالحمار، بذكائه وصبره ووفائه، يقدم لنا درسًا بليغًا في التواضع والحكمة. وعندما نطلق على أحدهم "يا حمار"، فهل نهينه حقًا، أم نكرم الحمار بصفات قد تكون غائبة عن ذاك الذي نشير إليه، وعنا نحن الذين نطلق هذه الكلمة دون تبصر؟

الحمار ليس حمارًا دكتورة نهال أحمد يوسف الجارديان المصرية