شحاتة زكريا يكتب : حين يصبح الإعلام وزارة خارجية موازية


في عالم يتغير بوتيرة أسرع من أي وقت مضى لم تعد السياسة الخارجية للدول تُصاغ فقط في قاعات التفاوض، ولا في اللقاءات الرسمية بين الرؤساء والوزراء. لقد أصبح الإعلام بمختلف وسائله التقليدية والرقمية ، لاعبا موازيا لا يقل تأثيرا عن وزارات الخارجية ، بل ربما يتفوق عليها في لحظات كثيرة. الإعلام اليوم ليس مجرد مرآة تعكس الأحداث ، بل قوة حقيقية تصوغ صورة الدول وتبني الجسور بين الشعوب وتؤثر في اتجاهات الرأي العام العالمي.
لقد أثبتت التجارب أن صورة الدولة في الخارج قد تُبنى أو تُهدم عبر الإعلام قبل أن تتحدد في البيانات الرسمية. كلمة تُذاع في نشرة إخبارية أو صورة تنتشر عبر وسائل التواصل، قد تغيّر مواقف الرأي العام العالمي ، وتدفع صانعي القرار إلى اتخاذ خطوات لم تكن مطروحة من قبل. وهنا يتضح أن الإعلام أصبح بالفعل وزارة خارجية موازية ، تحمل رسالة الدولة للعالم ، وتدافع عن صورتها وتشرح سياساتها بلغة يفهمها الجميع.
والأجمل أن هذا الدور لا يقتصر على الإعلام الرسمي وحده، بل يمتد إلى الإعلام الخاص ، إلى الصحفيين المستقلين إلى المثقفين والفنانين وحتى إلى محتوى ينشره شاب على منصة اجتماعية. كل هؤلاء يشكلون في النهاية جوقة وطنية متكاملة تنقل صورة بلدها إلى الخارج. في هذا المعنى يتحول الإعلام من مجرد ناقل للأخبار إلى قوة ناعمة تصنع الفارق وتفتح الأبواب أمام التفاهم والتقارب وتواجه ما قد يُثار من حملات تشويه أو شائعات.
حين ننظر إلى تجارب الأمم الصاعدة نرى كيف جعلت من إعلامها جسرا للسلام والتعاون. اليابان مثلا لم تبنِ صورتها العالمية بالاقتصاد وحده بل بالثقافة والإعلام حتى أصبحت كلمات مثل "الأنمي" أو "الساموراي" رموزا عالمية تفتح الأبواب أمام قيم يابانية أعمق. وتركيا على سبيل المثال استخدمت المسلسلات الدرامية كأداة لإيصال ثقافتها إلى ملايين المشاهدين وهو ما أسس لتأثير دبلوماسي غير مباشر، لكنه بالغ القوة.
في مصر يدرك الجميع أن الإعلام كان ولا يزال حارسا لصورة الوطن وصوتا لرسالته وأداة لصياغة انطباعاته الخارجية. لقد كان الإعلام المصري عبر عقود مدرسة للعرب جميعا ، ليس لأنه فقط نقل أخبار الوطن بل لأنه قدّم مصر بثقافتها وفنها وقيادتها كقوة ناعمة ممتدة. واليوم ومع ثورة التكنولوجيا أصبح التحدي أكبر لكنه في الوقت نفسه فرصة أعظم. فالمحتوى الذي يُصنع هنا يمكن أن يصل إلى أبعد مكان في العالم خلال لحظات يحمل معه رسالة وطنية تُعرّف الآخر بحقيقة مصر بعيدا عن الصور النمطية والشائعات.
الإعلام كوزارة خارجية موازية ليس بديلا عن الدبلوماسية التقليدية، بل هو شريكها الأمين. فبينما يتفاوض السياسيون على الطاولة يعمل الإعلام على تهيئة العقول والقلوب لتقبل هذا التفاوض. وبينما يشرح المسؤولون مواقف الدولة يعمل الإعلام على إقناع الجماهير بصدقية هذه المواقف وعدالتها. فالإعلام في النهاية يتعامل مع "الوجدان الجمعي" الذي لا يمكن تجاوزه في زمن أصبحت فيه الكلمة أقوى من الرصاصة، والصورة أسرع من القرار الرسمي.
وإذا أردنا أن نجعل من إعلامنا قوة دبلوماسية حقيقية، فإننا بحاجة إلى إعلام واع ومسؤول يتبنى خطابا صادقا وراقيا، بعيدا عن الانفعال أو التهويل. إعلام يفتح المجال للرأي والرأي الآخر ويعرض القضايا بروح من التوازن والاحترام لأن العالم لم يعد يقتنع بالشعارات بل بالحقيقة التي تصل إليه في ثوب شفاف وبليغ.
إن المستقبل يحمل للدول التي تُحسن استخدام إعلامها فرصًا هائلة. فمن يملك المنصة الرقمية، يملك القدرة على التأثير. ومن يُتقن سرد القصة، يملك القدرة على إقناع العالم. وهذا يعني أن الإعلام الوطني القوي ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية صورة الوطن وتعزيز مكانته.
في النهاية يبقى الإعلام حين يمارس دوره بصدق وإبداع أكثر من مجرد ناقل للخبر. إنه جسر للسلام قوة للوعي ووزارة خارجية موازية، قد تسبق أحيانًا وزارة الخارجية الرسمية بخطوات. وهذا هو سر قوته وجماله: أن يفتح للعالم نافذة على الوطن ، نوافذ من الحقيقة والأمل والإنسانية تجعل فكرة الوطن حاضرة في القلوب قبل أن تُسجل في الأوراق.