مدحت الشيخ يكتب : عزة ستعيش


عزة ليست اسمًا يُطلق على أنثى، ولا كلمة عابرة على الألسنة، بل هي معنى متجذر في وجدان الشعوب وضمير الإنسانية. عزة هي الكرامة في أنقى صورها، والكبرياء في أعلى تجلياته، والدليل القاطع على أن الأمم قد تُهزم بالسلاح أو تُنهك بالحصار، لكنها لا تُهزم أبدًا ما دامت العزة تسكن القلوب.
حين نتحدث عن عزة، فإننا لا نصف جغرافيا محدودة بحدود الأرض، بل نتحدث عن قيمة كبرى.. عن فكرة أن الإنسان خُلق حرًّا فلا يقبل الذل، وأن الأمم قد تفقد مواردها لكنها لا تفقد هويتها ما دام فيها من يحمي شرفها. قد تُهدم البيوت وتُمحى المعالم، وقد تُقطع المياه والكهرباء، لكن نور العزة في النفوس لا تطفئه قنابل ولا يُغرقه حصار.
عزة ستبقى ما بقي أطفال يولدون فوق أرض محاصرة، يفتحون أعينهم على أصوات القصف لكنهم يرفعون رؤوسهم إلى السماء؛ يتعلمون منذ لحظاتهم الأولى أن الكرامة لا تُشترى وأن الأرض لا تُباع. ستبقى ما بقيت نساء يلدن أبطالًا يواجهون الموت بابتسامة، ورجال يقدّمون أجسادهم جسورًا نحو الحرية، فيغدو دمهم حبرًا جديدًا يكتب قصة صمود لا تنتهي.
عزة ستعيش لأنها ليست مجرد قضية أرض، بل قضية وجود وكرامة إنسانية. من يظن أن القصف قادر على محوها واهم؛ فالتاريخ علّمنا أن المدن التي دُمّرت نهضت، والشعوب التي انكسرت إرادتها عادت أصلب وأقوى. وما عزة إلا حلقة جديدة في سلسلة من الصمود يثبت من خلالها الشعب الفلسطيني أنه الأقدر على تحويل الألم إلى قوة.
ستعيش لأنها تمثل اختبارًا لإرادة الأمة كلها. هي ليست شأنًا فلسطينيًا فحسب، بل مرآة تكشف ضعفنا أو قوتنا جميعًا. كل قطرة دم تسيل هناك توقظ فينا الضمير الغافل، وكل بيت يُهدم هناك يفضح عجزنا، وكل طفل يبكي من تحت الركام يسألنا: أين أنتم؟ أحقًا ما زلتم بشرًا؟
عزة ستعيش لأن الأوطان لا تُبنى بالخوف ولا تُصان بالمواثيق الهشة، وإنما بالتضحيات العظيمة. ومن يظن أن النسيان سيطويها لم يقرأ التاريخ جيدًا؛ فالأندلس بعد قرون ما زالت جرحًا مفتوحًا في الذاكرة، فكيف بعزة التي ما زالت تنبض في قلب حاضرنا؟
نعم، عزة ستعيش.. لأنها تختزن من الروح ما يزرع الأمل في قلب الأمة، ولأنها بما تملكه من صمود تفضح ضعف المعتدي مهما امتلك من سلاح. ستعيش لأن الشعوب لا تموت، ولأن الحق مهما طال غيابه لا يزول، ومهما طال ليل القهر ففجر الحرية قادم لا محالة.
إنها ليست مجرد مدينة على الخريطة، بل عنوان لصراع الإرادة ضد الطغيان، وامتحان لإنسانيتنا جميعًا. عزة باقية، والكرامة باقية، وما يُزرع بالدم لا يُمحى أبدًا بالتخاذل أو النسيان.