شحاته زكريا يكتب : مصر.. صخرة تتكسر عليها أوهام نتنياهو والإخوان معا


في لحظات الأزمات الكبرى حين تتكاثر الرياح العاتية وتتصاعد نيران الصراعات الإقليمية، تظهر الأمم على حقيقتها: إمّا أن تنكسر أمام الضغوط أو تتحول إلى صخرة صلبة تصدّ الموج وتُعيد صياغة المشهد. ومصر، عبر تاريخها الطويل، لم تكن يوما ساحة للانكسار بل دائما جدارا يحمي ذاته ويحفظ محيطه. واليوم ونحن أمام خلط الأوراق في الإقليم، يتجلى هذا المعنى بوضوح في موقفها الصلب الذي أفسد رهانات نتنياهو على الاستباحة والدمار ، كما بدّد أوهام جماعة الإخوان التي طالما سعت إلى إعادة تسويق نفسها عبر المتاجرة بالقضية الفلسطينية أو بثّ الفوضى في الداخل.
منذ اندلاع الطوفان في غزة رفع نتنياهو شعار القوة المطلقة التي لا تعترف بقيود ولا تلتفت إلى الأعراف الدولية. كان يتصور أن الزمن كفيل بتطويع المنطقة أمامه وأن الدم المسفوك سيُجبر العواصم على الصمت أو القبول بالأمر الواقع. لكن ما لم يحسبه هو أن مصر ستقف في المنتصف بين الدم والسياسة ، لتعيد المعادلة إلى نصابها. القاهرة لم تسمح بتحويل حدودها إلى ورقة ضغط ولم ترضَ أن تُفرض عليها معادلة التهجير أو الابتزاز. بل اختارت أن تكون صوتا للعقل والعدل معا وحائط صد يحمي الأمن القومي العربي والإقليمي في آن واحد.
الإخوان من جانبهم راهنوا على لحظة الفوضى هذه لإعادة إنتاج خطابهم المأزوم. حاولوا أن يوحوا بأنهم الممثل الشرعي لـ"المقاومة" أو الحارس الحقيقي لـ"القضية"، بينما الواقع يشهد أنهم لم يقدموا لفلسطين سوى الشعارات الجوفاء. الجماعة التي باعت أوطانها ذات يوم من أجل سلطة زائلة ، لا يمكن أن تبيع للعالم اليوم صورة جديدة. رهانهم على استغلال المأساة لإرباك الداخل المصري أو كسب تعاطف الجماهير انتهى إلى مزيد من الفشل لأن المصريين يعرفون جيدا أن القضية لا تُصان بالشعارات بل بالمواقف الراسخة وأن التاريخ لا يكتبه الهاربون بل تكتبه الشعوب الصابرة التي تحمي أرضها وحدودها.
القوة الحقيقية التي تملكها مصر اليوم ليست في جيشها وحده وإن كان الجيش هو الضمانة الصلبة لحماية السيادة، ولكن في عقلها السياسي الذي يقرأ المشهد بأبعاده كافة. القاهرة أدركت أن انزلاق المنطقة إلى فوضى التهجير سيعني إعادة رسم الخرائط قسرا وسيخلق بؤرا جديدة من العنف والتطرف ويهدد بتصفية القضية الفلسطينية نهائيا. لذا كان موقفها حاسمًا: لا تهجير ولا مساومة على الحقوق المشروعة ولا ابتزاز على حساب سيادة الدول.
من هنا صارت مصر أكثر من مجرد طرف إقليمي؛ أصبحت نقطة ارتكاز لا يمكن تجاوزها. لا نتنياهو استطاع فرض أجندته التي تقوم على الدم والخراب ولا الإخوان قدروا أن يلتقطوا لحظة ليعيدوا لأنفسهم دورا فقدوه منذ زمن. كلاهما اصطدم بجدار واحد اسمه "مصر"، التي تعرف أن دورها أكبر من حدودها ، وأن مسؤوليتها تتجاوز اللحظة إلى المستقبل.
إن الرسالة التي ترسلها القاهرة اليوم إلى العالم واضحة: الأمن القومي لا يُباع ولا يُشترى ، والقضية الفلسطينية لن تُطوى تحت مائدة المقايضة. مصر لا تملك رفاهية التنازل عن ثوابتها لأنها ببساطة تدرك أن أي تهاون اليوم سيُفتح الباب على فوضى ممتدة لعقود. ولهذا فإن ما تفعله ليس مجرد سياسة ظرفية ، بل هو حماية لحقائق التاريخ والجغرافيا معا.
قد يتصور البعض أن الضغوط الهائلة كفيلة بإضعاف المواقف لكن التجربة تقول إن مصر تزداد صلابة كلما اشتدت الأزمات. نتنياهو سيكتشف أن القوة العسكرية لا تمنح الأمن بل ربما تفتح أبواب الانهيار الداخلي لإسرائيل نفسها. والإخوان سيكتشفون أن من يتاجر بآلام الشعوب لا يحصد إلا الخيبة. أما مصر فستظل هي الصخرة التي تتكسر عليها الأوهام وتخرج من كل عاصفة أكثر رسوخًا وثقة.
في النهاية فإن اللحظة الراهنة ليست مجرد اختبار لسياسة خارجية أو حسابات أمنية؛ إنها لحظة تعكس جوهر الأمة المصرية: أمة تعرف أين تضع قدمها وأين ترسم حدودها، وكيف تحفظ توازن المنطقة رغم كل ما يحيط بها من نار. ومهما تعددت أوهام نتنياهو ومهما تكررت محاولات الإخوان فإن الحقيقة التي يثبتها الواقع كل يوم هي أن مصر أكبر من المؤامرات وأصلب من الانكسار وأصدق من كل الشعارات.