خالد درة يكتب ﻣﻦ باريس : بالعقل أقول…( ماذا بعد رمزية الاعتراف بفلسطين..؟ )


بعد تسونامى الإعتراف بالدولة الفلسطينية الكبير من أكثر من مائة و إثنين و خمسين دولة و خروج بيان نيويورك الذى يدعو لإقامة دولة فلسطينية .. أصبح يُفرض علينا تساؤلات عدة و أهمها هو ما الموقف من القدس التي تبقى قلب الصراع العربى الإسرائيلى ..؟ سؤال يطرح نفسه في خضم الاعترافات المتتالية بالدولة الفلسطينية
فلا شيء إستطاع أن يعيد فلسطين إلى الواجهة كما فعلت الدماء .. فالسابع من أكتوبر و ما تلاه من حرب على غزة لم يُفجّر الصواريخ فقط ، بل فجّر معها كل المسكوت عنه في العواصم الأوروبية .. و فجأة ، أصبحت دول كانت تُسمى صديقة لإسرائيل أعلنت اعترافها بالدولة الفلسطينية .. خطوة أثارت التصفيق ، لكنها أقرب إلى رد فعل عاطفي منها إلى رؤية سياسية متماسكة ، جاءت تحت ضغط الشارع الغاضب أكثر مما جاءت من حسابات استراتيجية بعيدة المدى ..
و إسبانيا كانت السباقة أوروبياً بخطاب متشدد ضد إسرائيل ، و لحقتها فرنسا باعتراف رسمي في سبتمبر 2025، لتكسر واحدة من أكبر المحرّمات في السياسة الأوروبية .. كما انضمت بلجيكا و البرتغال و لوكسمبورغ إلى هذه الموجة ، فيما مثل اعتراف بريطانيا تحولًا استراتيجيًا لافتًا ، بحكم ثقلها التاريخي و دورها التقليدي في صياغة مواقف الغرب من الصراع الذى كانت هى من فعلته من خطيئة إرتكبتها فى حق الفلسطينيين بوعد بلفور الذى قضى على دولتهم فلسطين ﻭ إنشاء دولة الكيان الصهيونى .. و مع ذلك ، يبقى أثر هذه الاعترافات محدودًا ما لم يُترجم إلى سياسة أوروبية موحدة قادرة على الضغط الفعلي ..
هذا بخلاف الموقف الإسباني المحترم ، لم نر من هذه الدول قطيعة دبلوماسية مشروطة بوقف الحرب ، و لا مراجعة لاتفاقيات ، و لا حتى تهديدًا بالمصالح الاقتصادية أو العسكرية مع تل أبيب .. كل ما رُصد كان توازنًا لفظيًا محسوبًا : هو إدانة علنية لإسرائيل بجرائم الحرب من جهة ، و إبقاء الأبواب مشرعة أمام سفرائها من جهة أخرى ، و هو ما يؤكد أن هذه الدول تستخدم سياسة العصا المرفوعة في الخطاب ، و اليد الممدودة في الكواليس ..
في المحصلة ، نحن أمام قائمة جديدة من الاعترافات الرمزية التي لا تجرؤ على الإجابة عن الأسئلة الكبرى المعلّقة .. فما الموقف من القدس التي تبقى قلب الصراع؟ و ما مصير المستوطنات التي تقزّم أي حديث عن دولة قابلة للحياة ؟ و كيف يُطلب من الفلسطينيين بناء كيان منزوع السلاح تحت سماء يسيطر عليها الطيران الإسرائيلي و بحر تحكمه بوارج الاحتلال؟ ثم من يضمن ألا تتحول الدولة المنشودة إلى مجرد إدارة مدنية تحت وصاية مشروطة ، أشبه بانتداب جديد يُلبس ثوب الدولة بينما القرار في يد المحتل؟ .. و ماذا عن حق العودة و مصير المخيمات التي تحولت في لبنان و سوريا و الأردن إلى أوطان مؤقتة منذ أكثر من سبعة عقود؟ .. أهي خارج معادلة الاعتراف ، أم أن الدولة المرتجاة ستولد مبتورة من شعبها المشتت؟..
للأسف ، اعتاد الرأي العام العربي أن يدار بميزان العاطفة ، فيسحره الخطاب و يخدعه الوهم ، خصوصًا حين يُضخم البعض ما يسمونه "بركات السابع من أكتوبر" و ينسبون إليها موجة الاعترافات الأخيرة .. غير أن هذه الاعترافات قد لا تكون سوى فصل جديد في مسرحية أممية ، و سرعان ما يتهاوى عند أول اختبار حقيقي ..و مع إعادة إعمار غزة هنا سيتضح إن كانت هذه الدول مستعدة لترجمة مواقفها السياسية إلى التزامات مالية و فنية فعلية ، أم أنها ستعود إلى ذات الشروط المقيدة التي تجعل الدعم مشروطًا بإملاءات على السلطة الفلسطينية ، فتُفرغ الاعتراف من جوهره و تحوّله إلى ورقة ضغط إضافية ..
فالحقيقة أن الواقع على الأرض هو الذي يُحدد في النهاية وزن الاعترافات و حدودها .. فما لم تترجم إلى مسار سياسي واضح و متماسك ، ستظل مجرد استجابة ظرفية للحظة إنسانية استثنائية ، قابلة لأن تفقد زخمها مع أول تهدئة .. فالامتحان الحقيقي سيبدأ حين تُسكت المدافع ، و حينها فقط سيتضح إن كان الغرب مستعدًا لترجمة دموعه إلى ضغط ، أم أن النفاق سيعود إلى قواعده كعناق لفظي للفلسطينيين ، و تعاون عملي مع إسرائيل ..
من هنا ، لا ينبغي للفلسطينيين أن يسرفوا في التفاؤل .. فالاعترافات الدولية رصيد معنوي مهم ، لكنها لا تبني دولة و لا تفك حصارًا .. فالطريق إلى الدولة لا يُعبد بالبيانات الدبلوماسية ، بل بالصمود على الأرض و بالسياسة الموحدة التي تلتقط اللحظة و تحميها .. و بين الاعتراف و الخذلان مسافة قصيرة ، و الفلسطينيون يعرفون جيدًا أن امتحانهم الحقيقي يبدأ بعد أن تنفضّ خطابات العواصم و يعود كل طرف إلى مصالحه.