الأحد 5 أكتوبر 2025 07:17 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الإعلامي الكبير محمد جراح يكتب :عندما رأى الصقر كل شيء تحوتمس إمبرطور مصر والشرق القديم

الإعلامي الكبير محمد جراح
الإعلامي الكبير محمد جراح

.يعد الملك "تحوتمس الثالث" من أعظم فراعنة مصر الذين برعوا في العسكرية وأرسوا دعائمها، وهو الذي انطلق بها ليضيف إلى أمجاد آبائه وأجداده أمجاداً وفخاراً مل زالت مبهرة حتى يومنا هذا. وقد انفرد بالعرش حوالي عام 1468 ق م، بعد أن كان قد شارك حتشبسوت لفترة، وكان يمكن له كأي حاكم أن يكتفي بما تحت يديه، فقد كانت مصر في ذلك الوقت دولة قوية ويحسب لها ألف حساب من جانب القوى المناوئة المجاورة والقريبة من حدودها، كما كانت لها علاقات تجارية نشيطة خصوصاً ناحية جنوب الجزيرة العربية، واليمن، والساحل الأفريقي الشرقي الذي يشمل الصومال واريتريا، هذا بالإضافة إلى حركة تجارية أخرى مع سوريا ولبنان وغيرهما، وكانت الخيرات تتدفق على مصر من هنا وهناك، وكانت البلاد ما تزال تعيش ذكرى الأمس القريب الذي تخلصت فيه من هؤلاء الذين دنسوا ثراها، ولكن كانت هناك مجموعة من العوامل الدولية والظروف المحلية تدعو مصر للانتباه، فالقوة لابد من تنميتها ورعايتها واستثمارها حتى وإن كانت البلاد تعيش سلاماً ولا تتهددها أية أخطار ظاهرة، وحركة التجارة لابد لها من قوة تتدخل لصالحها متى دعت الحاجة، والحدود لابد من السهر عليها وحمايتها، والطامعون والطامحون في الداخل والخارج لن ينتهوا، ولأن تحوتمس الثالث تربى تربية عسكرية رفيعة وخبر كل فنون الحرب وألم بأصول العسكرية كما ينبغي وأكثر، فقد بدا مختلفا عن كل ما سبقوه، طموحاً وليس مغامراً، فقرأ الظرف المحلى والظرف الدولي، ونظر ببصيرته لآخر المدى، فكان عليه أن يعد العدة ليس لتأكيد اسم مصر بين الأمم، ولكن لجعل هذا الاسم مثيراً للرهبة المتبوعة أو المصحوبة بالإجلال والتقدير المعهود، وليجعل أي طامع يفكر ألف مرة إن هو نطق اسم مصر.

كانت المخاطر والمشاكل قد تولدت في بلاد الشام وأطراف بلاد النهرين، وقد أدت إلى قيام هذه المشاكل عدة أمور هي

1- اهتمام حتشبسوت طوال فترة حكمها بالسياسة التجارية مع الجانب الأفريقي على حساب الجانب الآسيوي، الأمر الذي ربما أدى إلى فتور وتباعد من نوع ما بين مصر وبين الشام بدوله ودويلاته، وضعف ما في النفوذ المصري هناك مما دفع ببعض الدويلات إلى إعلان تمردهم واستقلالهم عن الفلك المصري.

2- قيام دولة " الميتانيين " بلم شملها متطلعة نحو وحدة تعترف بملك واحد ويكون لها دور في توجيه سياسة الشرق القديم، خصوصاً وأن موقعها على نهر الفرات وامتدادها نحو نهر "دجلة" وفر لها موقعاً من الممكن أن يؤثر على حركة التجارة والتحكم فيها

3- قيام دولة الميتانيين وبحساب ذكي في إلهاء مصر عما تريد أن تبلغه، فقامت بإثارة الفتن والمشاكل والاضطرابات ضدها في الشام، فاستجاب لمخططاتها وتحريضاتها بعض حكام دويلات الشام.

وقد أدى ذلك إلى قيام تحالف تزعمه أمير منطقة " قادش واتجه بالقوات المتحالفة معه إلى شمال فلسطين والسيطرة على مدينة "مجدو" وجعلها منطلقاً لما يخطط له، فقام بمد نفوذه حتى مدينة "شاروحين" والتي كانت للعسكرية المصرية فيها مآثر وبطولات باعتبارها آخر معاقل "الهكسوس"، وتكمن الأهمية الإستراتيجية لمدينة "مجدو" في أنها تتحكم بموقعها في الممرات الجبلية التي تعترض طرق التجارة البرية بين جنوب بلاد النهرين وجنوب الشام من ناحية، وبين فلسطين ومصر من ناحية أخرى، وكان على تحوتمس أن يتحرك قبل أن تتفاقم الأمور وتصل إلى حد تهديد مصر ذاتها.

وتقع "مجدو" في سهل "مرج بن عامر"، وهو سهل فسيح ومنبسط بين الجليل في الشمال، والسامرة في الجنوب، والكرمل في الغرب، ويضيق هذا السهل قرب مدينة حيفا لينفذ إلى سهل عكا الساحلي، ويضيق أيضاً عند جنين في الجنوب، وينحدر شرقاً إلى بيسان في غور الأردن، ويحف به جبل طابور في شماله الشرقي.

والمرج هو طريق الاتصال الطبيعي بين شمال سورية وجنوبها، ومن ثم بين العراق وآسيا الصغرى من جهة وبين وادي النيل من جهة أخرى، وقد كانت القوافل التي تدخل مرج بن عامر من سهل عكا إنما تفعل ذلك لكي تعبره إلى السامرة بطريق جنين أو إلى "شاروهين" بطريق مجدو

وقد استرعى هذا الموقع المهم حربياً وتجارياً نظر الفاتحين ورجال الحكم منذ أقدم الأزمنة، وقد كان على كل من دان له هذا السهل أن يعمل على العناية بمسالكه ومضاعفة القوات القائمة على حراسته حتى لا يقع في أيدي الأعداء، ومن أجل ذلك أقيمت مجموعة من الحصون والقلاع قرب المنافذ والمسالك الخاصة بهذا السهل وأهمها بيت شان "بيسان“، وتعنك، ومجدو "تل المتسلم"، ودور "تل الطنطورة" على الساحل، وتكاد مجدو أن تكون هي الأكثر أهمية وقيمة وذلك لأنها تتوسط مجموعة القلاع والطرق.

وقد عرفت مجدو منذ القدم بأسماء كثيرة منها مجدو كما ورد في "يشوع"، و"مجدون" كما في "زكريا" و"رؤيا يوحنا اللاهوتي"، ومعنى الاسم هو "تل المعارك"، وقد أعطت المدينة اسمها للسهل المجاور لها فعرف باسم "بقعة مجدو" في عهد "العبرانيين"، وقد ظل معروفاً بهذا الاسم حتى العصر الروماني.

وحتى الآن ما تزال هذه البقعة من أخصب سهول فلسطين وأوفرها ماء، وكانت خير أرض يعسكر فيها جيش، وقاعدة ارتكاز للعمليات العسكرية، كما أنها لغناها الطبيعي كانت مرعى جيد للقطعان وغيرها من الحيوانات المصاحبة للجيوش القديمة.

وحالياً فقد اختفى كل ما يمكن أن يدل على أهمية التل حتى اسم مجدو هو الآخر ضاع في التسمية الشائعة الآن وهي تل المتسلم، لكن المكان بتسميته القديمة فقد ترك أثراً لن يمحى من سجلات التاريخ القديم

ولما كانت مجدو تتحكم بهذا الشكل في أكثر الطرق استقامة عند حاجز "الكرمل"، فقد كانت معقلا استراتيجياً هاما، فإذا تمت السيطرة والاستيلاء على هذا الحصن القوي تفتحت طرق كثيرة إلى عدة بقاع إلى الشمال والشرق، وكان أولها الطريق المباشر المنحدر مع السهل ماراً بـ "جزريل" و "بيسان" ثم شمالاً صعوداً مع نهر الأردن، أما الثاني فكان يتحد مع الأول حتى "جزريل" ثم يدور نحو الشمال عابراً المجاري الشرقية الصغيرة في هرمون حتى يصل إلى وادي الأردن شمال "بيسان"، وكان الثالث يحف بهذا التل ثم يندمج مع الطرق الأخرى، أما الطريق الشمالي الكبير فكان يعبر الممر العميق عند الناصرة ثم يتفرع إلى طريق يتجه إلى بحر الجليل ، والآخر إلى "حاذور".

كما تعتبر معركة "مجدو" من أشهر المعارك في تاريخ العسكرية بصفة عامة، وهي من قبل تعد من أشهر أحداث العالم القديم.

ولأن "تحوتمس" تربى عسكرياً تربية رفيعة فقد اتخذ القرار ولم يكن قد مضى على انفراده بالحكم إلا شهور قليلة، لكن الأمور كانت في يديه فهو وإن كان قد أبعد عن الحكم معظم أيام حكم "حتشبسوت" إلا انه كان على اطلاع وكان ملماً بكل الأحوال، فلم يكن منفياً أو محبوساً بل كان يعد عسكرياً في مدرسة "منف" الحربية ينال فيه التأهيل الذي خول له اكتساب مهارات التكتيك والمناورة والجرأة والإقدام والشجاعة، ونحن نعرف عن هذه الحملة أنها تمت في العام الثاني والعشرين من حكمه أي في العام الأول لانفراده بالحكم لأن تحوتمس لم يعترف بالفترة التي حكمت فيها حتشبسوت، وأنه غادر حصن" ثارو" على مقربة من القنطرة في طريقه إلى فلسطين.

ونحن نعرف تفاصيل الحملة الأولى مما جاء على جدران معبد الكرنك لأن "تحوتمس الثالث" كان يصطحب معه كتاباً كان مهمتهم تسجيل كل ما يدور من أحداث وتفاصيل وهو الأمر الذي أثنى عليه العلماء والباحثون والذين قالوا إن ذلك كان أول تقليد لعمل تقارير حربية مفصلة أو يوميات حرب

للعودة إليها وقت الحاجة ونستطيع مقارنتها بتقارير المعارك الحربية الحديثة، ولتكون سجلاً للجيش يمكن العودة إليه وقت الحاجة.

الإعلامي الكبير محمد جراح :عندما رأى الصقر كل شيء تحوتمس إمبرطور مصر والشرق القديم الجارديان المصرية