الأحد 12 أكتوبر 2025 09:20 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

طارق محمد حسين يكتب : (محمود سعادة) عبقرية مصرية

الكاتب الكبير طارق محمد حسين
الكاتب الكبير طارق محمد حسين

في ٨ يوليو سنة ١٩٧٢م، صحت مصر كلها على عناوين الجرائد، الرئيس "السادات" أصدر قرار جرئ جدا بطرد الخبراء العسكريين السوفييت من مصر، العالم كله فوجئ بالقرار ، وشهد كل أبطال وقاده حرب أكتوبر بحتميه التخلص منهم قبل الحرب، هذا القرار قابله الروس بمنع توريد قطع غيار الأسلحة الموجودة لدي الجيش المصري، ولأن كل سلاح له عمر افتراضي ولابد من تغيير بعض قطع الغيار كي يعمل بكفاءة ، علي سبيل المثال امتنعوا عن إمداد الجيش بإطارات الطائرات ، ولكل إطار عدد مرات هبوط، ولابد أن يستبدل بعدها بإطار جديد ، وتوقف توريد الإطارات يعني توقف الطائرات عن العمل أصلا، وهذا جعل الطيارين يعملون علي تقليل حدة الهبوط للحد من استهلاك الإطار، وذلك حل مؤقت استطاعوا ان يزيدوا عمر الإطارات به. لكن الكارثة كلها كانت في سلاح الدفاع الجوي، لأنه يتكون من حائط الصواريخ، وهو معظمه كتائب صواريخ سام الروسية ، وتلك الصواريخ تعمل بوقود لا يوجد سوي في روسيا، والوقود له فتره صلاحية محددة وبعدها لا يعد صالحا للاستخدام ، فأوقف الروس توريد ذلك الوقود للصواريخ، وهذا معناه شلل حائط الصواريخ ولا دفاع جوي قوي ، مما يعني انه لا توجد حرب من الأساس..لأن خطه الحرب المصرية قامت علي إدراك حقيقي لواقع ان القوات الجوية للعدو، التي كانت تتفوق تفوق كاسح علي القوات الجوية المصرية حينها، وكان لابد من وقف السيطرة الجوية لهم، وهذا لا يحدث بدون كفاءة الدفاع الجوي ومن بعده القوات الجوية، ومع عدم وجود الوقود تبقى خطتنا الدفاعية كلها فشلت من قبل أن تبدأ..وعليه بدأت أجهزة الجيش والمخابرات والدولة كلها تتحرك لحل المشكلة، وواحد من اتجاهات التحرك كانت داخل مصر نفسها، يعني باللجوء للعقل المصري وهذه كانت مهمة "المشير محمد علي فهمي" قائد قوات الدفاع الجوي حينها، وكان برتبة لواء.
الرجل بحث في حل السر داخل الأجهزة والمعامل الفنية التابعة للجيش، لكن لا يوجد حل، واجهه عجز تام ، لأن الوقود التالف لابد من التخلص منه، لكنه لم ييأس وقرر أن يخرج بالمشكلة كمهمة وطنية تخص كل علماء مصر ، فاتجه للعلماء المصريين المدنيين بجميع كليات العلوم في الجامعات.. ، مرت سنة كاملة من البحث دون حل للمشكلة ، عرض المشكلة بالكامل على المركز القومي للبحوث في مايو ١٩٧٣ م، وهناك تقدم له أستاذ بقسم التجارب نصف الصناعية بالمركز، دكتور شاب اسمه "محمود يوسف سعادة" اللي انكب على الدراسة والبحث لإيجاد حل لهذه المشكلة ،وفي اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في يونيو ١٩٧٣م، عرضت مشكلة الوقود على الرئيس "السادات" الذي قال صراحة استحالة الحرب علي هذا الوضع ، فطلب اللواء "محمد علي فهمي" انضمام عالم مدني لهم ، وبالفعل تم دعوة الدكتور محمود للحضور لوزارة الدفاع والانضمام لاجتماع المجلس الأعلى للحرب ..خلال ذلك الشهر الماضي نجح العالم المدني في استخلاص ٢٤٠ لتر وقود جديد صالح لإعادة الاستخدام ، استخلصها من الكمية المنتهية الصلاحية الموجودة بمخازن قوات الدفاع الجوي، وبالفعل أخد عينة معاه وكمية دفاتر وأوراق وانضم لاجتماع المجلس الأعلى للحرب، وامام قادة الأفرع والرئيس بدأ يشرح خطوات عمله طوال الفترة الماضية ببساطة، لقد استطاع ان يتوصل لفك شفرة مكونات وقود الصواريخ، ووصل لعوامله الأساسية والنسب لكل عامل، ثم قام بتجميعها مرة تانية واستخلص ٢٤٠ لتر ، انبهر الرئيس "السادات" بهذا العقل المصري الفذ ، وأمر "اللواء فهمي" بإجراء تجربة شحن صاروخ بالوقود الجديد، للتأكد من مدى فاعلية إطلاقه، وفعلا نجحت التجربة بشكل عبقري، استثمر هذا النجاح وتم تكليف أجهزة المخابرات العامة بإحضار عينة من الوقود من دولة غير روسيا، وبعد إحضار العينة تم استيراد مكونات الوقود كمواد كيماوية عادية، وحصل دمج بين المركز القومي للبحوث مع معامل القوات المسلحة، وتحت إشراف "الدكتور محمود سعادة" انقلبوا لخلية نحل، يعملوا ١٨ و ٢٠ ساعة يوميا.. ، ونجح أولاد مصر المدنيين والعسكريين معا ، هؤلاء الجنود المجهولون الذين اشتركوا في هذا الجهد العظيم ، فتم إنتاج كمية كبيرة حوالي ٤٥ طن من وقود الصواريخ، وهكذا أصبح الدفاع الجوي المصري مستعد جدا لتنفيذ دوره المخطط له في عملية الهجوم.. وكانت مفاجأة ضخمة للسوفييت حين شاهدوا أداء حائط الصواريخ في حرب أكتوبر ، لم يعلموا أن مصر كلها جيش واحد ، مدنيين ، وعسكريين يحاربون في جبهة واحدة ، معارك وقتال حرب الاستنزاف أو حرب أكتوبر ١٩٧٣م، كان نتيجة جهد وعرق عسكريين وأفكار مواطنين عاديين خرجوا من تراب هذا الوطن ، الجيش والشعب أدوا ملحمة ملهمة في تماسك واصرار لتحرير الأرض..لقد سخر الله "الدكتور سعاده" كي يتوصل لما توصل له، ويبقى واحد من أهم الأسباب إذا لم يكن أهمها بالفعل في نصر أكتوبر، ولولاه لكان دخول مصر للحرب من المستحيلات، ولك أن تتخيل إن الدفاع الجوي دمر ٣٢٦ طائرة أسرائيلية في حرب أكتوبر، بفضل هذا الرجل الأسطورة المجهولة ..
الدكتور "محمود يوسف سعادة" بعد الحرب حاز على جائزة الدولة التشجيعية ووسام العلوم والفنون، تقديرا من الرئيس " السادات" على دوره التاريخي في النصر، وبعد أداء مهمته رجع واستكمل حياته العملية مثل أي مواطن عادي، شغل منصب نائب رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا ومدير مكتب براءة الاختراع فى التسعينات، ثم أصبح أستاذ متفرغ بالمركز القومي للبحوث.. نحن اليوم نعيش في خير وأمان بسبب ما قدمه هو وزملائه قبل الحرب ، هذا ما قدمه لمصر ! توفاه الله تعالى فى ٢٨ ديسمبر ٢٠١١م، وارسل المشير "طنطاوي" مندوب عنه لتشييع الجنازة، التي حضرها بعض قادة الجيش الحاليين والمتقاعدين، وأيضا زملاءه بمركز البحوث ، بدون ضجيج إعلامي يظهر الدور البطولي الذي قام به "الدكتور سعادة"، وكأن الله جعل لمصر كلها من اسمه نصيب، وكان سبب مباشر لسعادتنا ،رحم الله "الدكتور محمود يوسف سعادة" ويسكنه فسيح جناته. وطبعا شباب اليوم للأسف لا يعرف شيء عن الدكتور سعادة لأن إعلامنا مشغول بسيرة التافهين والرويبضة .

(محمود سعادة) عبقرية مصرية طارق محمد حسين الجارديان المصرية