شحاته زكريا يكتب : سلام بلا أوراق.. ومفاوضات بلا شهود


في الشرق الأوسط لا تُعلن الحروب دائما بصوت المدافع ولا توقع السلامات دائما بالأقلام. أحيانا يكون الصمت أبلغ من البيان والابتسامة الباردة على طاولة الاجتماعات أعمق من ألف كلمة. فثمة سلام جديد يُصاغ الآن بلا أوراق.. ومفاوضات تُدار بلا شهود.
منذ هدنة شرم الشيخ تغيّر إيقاع المنطقة. بدا وكأن الجميع يلتقط أنفاسه بعد عام من اللهيب كن الحقيقة أن خلف الهدوء الظاهري تدور أشرس المعارك السياسية. فالميدان لم يعد في غزة وحدها بل في العواصم التي تُمسك بخيوط اللعبة. ما نراه فوق السطح هو هدنة مؤقتة وما يُكتب في الخفاء هو مستقبل الإقليم لعقود قادمة.
لم تعد الدبلوماسية اليوم تدار أمام الكاميرات بل في غرف مغلقة حيث الكلمات تُوزن بميزان الخطر والابتسامات تُخفي حسابات دقيقة. فالجميع يعرف أن أي اتفاق معلن قد يسقط قبل أن يُجفّ حبره لذلك فضلوا هذه المرة سلاما بلا أوراق سلاما مؤقتا هشّا لكنه كاف ليمنح الوقت للعواصم أن تُعيد ترتيب أوراقها وتحديد مكاسبها.
ما يجري الآن يشبه لعبة الشطرنج الكبرى كل طرف يتحرك بحذر على رقعة ملغومة. الكيان الإسرائيلي يحاول أن يخرج من المستنقع بأقل خسائر سياسية ممكنة والفصائل الفلسطينية تحاول أن تُعيد صياغة موقفها على قاعدة البقاء لا الانكسار بينما تتحرك القوى الإقليمية بين الرغبة في تهدئة حقيقية والخوف من انفجار جديد. وسط كل ذلك تظل القاهرة — كما في كل لحظة فارقة — هي العقل البارد في زمن الانفعالات تمسك بالخيوط دون ضجيج وتبني التفاهمات دون أن تبحث عن تصفيق.
القاهرة تدرك أن السلام الحقيقي لا يُكتب في الصحف بل في العقول. وأن أي اتفاق بلا قناعة لن يعيش طويلا. لذلك اختارت أن تلعب دور الضامن العاقل لا الوسيط العابر. فبينما يتحدث الآخرون عن خطوط النار تتحدث مصر عن خطوط الحياة: فتح المعابر إدخال المساعدات إعادة الإعمار وصون الكرامة الإنسانية كجزء من أي تسوية قادمة. إنها مفاوضات بلا شهود لكنها تحمل روح الدولة التي لا تنام عن دورها ولا تفرّط في مسؤوليتها التاريخية.
الغريب أن بعض القوى تحاول دائما أن تُقيّم المشهد من زاوية واحدة: من انتصر ومن انهزم. لكن الحقيقة في الشرق الأوسط أكثر تعقيدا من عناوين الأخبار. هنا لا يوجد نصر كامل ولا هزيمة مطلقة. فالقوة ليست في عدد الصواريخ بل في القدرة على فرض الرؤية حين يتعب الجميع. وهذا ما تفعله القاهرة: تدير معادلة مستحيلة بين الأمن والسياسة بين الإنسانية والسيادة بين من يصرخون في الشوارع ومن يصنعون القرار في الغرف المغلقة.
إن ما نراه من هدوء هشّ ليس سلاما نهائيا بل هدنة اختبارية للضمائر قبل البنادق. اختبار لإرادة الأطراف وقدرتهم على الاعتراف بالواقع لا الهروب منه. فحين تجلس الأطراف حول طاولة بلا شهود ، تتكلم الحقائق لا الشعارات ويظهر معدن الإرادة لا بريق الكاميرات.
ربما لهذا السبب اختارت القاهرة أن تبتعد عن المسرح وتبقى في الكواليس لأن من يعرف خبايا النار يدرك أن بعض المواقف لا تُقال وبعض الاتفاقات لا تُعلن. إنها مدرسة مصرية قديمة في السياسة: أن تبني التفاهم بينما الآخرون يتحدثون عن الصراع وأن تحافظ على الخيوط كلها حتى لو احترقت الأصابع.
الشرق الأوسط يقف اليوم عند مفترق طرق. بين من يريد أن يُعيد إشعال الحرب تحت عنوان “الكرامة”، ومن يريد أن يُكرّس الاحتلال باسم “الأمن”. وبينهما تقف الحقيقة البسيطة: لا كرامة في الموت ولا أمن في الحصار. الطريق الوحيد هو السلام لكن السلام العادل الذي لا يُهان فيه أحد ولا يُمحى فيه تاريخ أحد.
قد لا نرى اليوم وثائق تُوقَّع أمام الكاميرات لكننا نرى بوضوح إرهاصات وعي جديد في الإقليم واعترافا بأن الحروب لم تعد تحل شيئا وأن الصراع الأبدي استنزف الجميع. ربما لا يُعلن هذا السلام غدا لكنه يُكتب الآن في الصمت بين العواصم التي أدركت أن البقاء للأذكى لا للأقوى.
سلام بلا أوراق.. ومفاوضات بلا شهود.
تلك هي الحقيقة التي تصنعها مصر بصبرها الهادئ في وقت تزدحم فيه المنطقة بالضجيج والمزايدات. سلامٌ يُبنى بالعقل لا بالعاطفة وبالثقة لا بالتصريحات. سلامٌ لا يراه البعض اليوم لكنه سيكتشف غدا أنه كان البداية الحقيقية لنهاية زمن الدم وبداية زمن الوعي.