عصام بيومي يكتب : حديث الهوية.. على أمل الحرية على أمل الموت
ما أكثر ما كُتب عن الهوية، ما هي، وما مواصفاتها وكيف تتشكل. وكأنها حلم سارح في الليالي المظلمات، أو وهم يجوب العقول الخاويات، أو سراب لا يصل إليه الظمان حتى يجده ترابا أو حُلْما مات. الذين يبحثون عن الهوية هكذا لن يجدوها أبدا، لأن لا أحد يبحث عن الشمس وهي ساطعة في قلب النهار، ولا أحد يبحث عن الماء في وسط الأنهار، ولا أحد يبحث عن الدفء في وسط النار.
تحدثت في مقالات سابقة، وفي كتابي"عصور الظلام في الإسلام.. كيف تشكل عقلنا الحديث"، عن كيف فقدت الأمة الإسلامية هويتها وباتت كيانا بلا هوية وجسدا بلا رأس منذ زمن بعيد. وهنا مزيد من التأملات، في ضوء ما نكأته بعض الأحداث الراهنة من جراح في حديث الهوية.
الهوية باختصار، ومن وحي ما كُتب عنها، هي العلامة المميِّزة، أو السمت الواضح، أو ما يشتهر به الشخص أو الكيان أيا كان. ومن أهم شرائط تحققها الاستمرارية والشهرة. فلا هوية لحالة طارئة. ولا يمكن وصف هوية خفية. وعندما تعرف هوية خفية لفرد أو جماعة أو كيان تكون قد خرجت من الكتمان إلى العلن. مثلا، الكيان الصهيوني بات معروفا الآن في كل مكان في العالم بأنه "كيان إرهابي" مهما أنكر وحاول الإخفاء.
وهنا تنقسم الهوية هويتان، واحدة حقيقية وأخرى غير حقيقية (مزورة، أو متخيلة أو مشوهة). وادعاء الهوية أو تخيلها لا يفيد. تماما مثل شخص مريض، وتبدو عليه كل أعراض المرض، ثم ينكر كونه مريضا. هنا لا يفيد نفيه عند من يرونه مريضا. أو كشخص يظن أنه ضخم وقوي وعظيم بينما يراه الجميع مجرد قزم. الهوية المشوهة أيضا لا تدوم ومصيرها التغير المستمر(سلبا وإيجابا). والهوية ليست بالضرورة شيئا تبلوره الكلمات والعبارات، ولا تحدده المراسيم والقرارات، ولا تعتمده الهيئات والمنظمات، بل يفرضه الواقع والتجليات.
وعندما يتعلق الأمر بجماعة أو وطن أو أمة تتحدد الهوية من خلال سلوك الأغلبية مهما حاول البعض (النُخب مثلا) التلاعب بصفات وواقع تلك الأغلبية. فالهوية هي نبض الحياة في كل تفاصيلها. مزيج من الماضي والحاضر، من الواقع والتصورات، من الآمال والطموحات. لكن تتضح معالمها وتتحدد صورتها ويتبلور شكلها عندما تجد المساحة الكافية للتجسد، بلا قمع أو قهر يَسلب الحرية ويُخضِعُ للاحتلال. في هذا العالم الأسير لدى النُخب صار الفرد يُحتل كما تُحتل الدول. صارت الهوية الوحيدة المسموح بها هي "اللا هوية"، أو "الهوية الرقمية" لا فارق كبيرا (وهذه سنناقشها لاحقا).. فنحن البشر أو البشرية شعوب بلا هوية، أو هكذا يراد لنا. لأننا، شرقا وغربا، محتلون نفسيا وماديا.
وأحسب أن سؤال الهوية ذاك يطرحه البعض بصدق أو سذاجة. ولكن يطرحه آخرون بخبث ومكر ودهاء. فلا يسأل عن شيء واضح وضوح الشمس إلا من يريد نفيه أو طمسه. واستغرب من الذين ما يزالون يصرون على استخدام كلمة "نحن" هكذا بلا ضابط، ويطلقونها جذافا على أمة بأسرها أو شعب بأكلمه دون تمييز بين حاكميه ومحكوميه وبين مؤتمنيه وخائنيه، وإن كان حرا أو محتلا. ثم يطالبون الشعوب هكذا جذافا أيضا بالبحث عن هوية. وما ذاك إلا عملية استغباء أو جلد للذات على أحسن الفروض.
فهل يطالَب العبد المحتل المقيد أو يخاطَب ب "افعل ولا تفعل" إلا من صاحبه ومالكه. أليس من الضلال مخاطبة العبد وكأنه حر، ولومه وتقريعه على سلبيته وتقصيره. أليس من الإنصاف أولا تحريره من أسره بدلا من نصحه بالبحث عن هوية بينما هويته مسلوبة ومشوهة. ألا ينبغي قبل ذلك الاعتراف بأنه عبد ومحتل. على مر التاريخ لم يكن للعبيد هوية مستقلة. ولم يكونوا يُعرفون بأسمائهم المجردة وإنما بفلان عبد فلان. هم كانوا أتباع أسيادهم. وكذلك الخاضعون للاحتلال، ليست لهم هوية خاصة بهم. ولا أشك أن "الأسياد" عندما يجتمعون يذكرونهم كما كان يُذكر عبيد الماضي. ألم يحدث ذلك فعلا بعد "سايكس بيكو" وكان يشار إلى مناطقنا في الخرائط بعبارات "انتداب فرنسي" و"انتداب بريطاني"، وهكذا. أليست الليلة أشبه بالبارحة!
هنا تتبلور الفكرة بين قوى تحاول محو الهوية، وشعوب يتوقف على وعيها مدى نجاح أو فشل تلك المحاولات. والذين ما يزالون يبحثون عن الهوية هكذا بلا تمييز ولا تدقيق، هم إما مغيبون أو عابثون. فالأمور باتت واضحة. قد تبين الرشد من الغي؛ لا هوية بلا حرية ولا حرية بلا مقاومة ولا مقاومة بلا تضحية. والتضحية لا تستثني الموت. قديما كانت الحرية تقيد بتوثيق الأيدي والأقدام. ولكن، في عصر الهوية الرقمية لم تعد القيود فقط على الأيدي والأقدام، ولكن على القلوب والعقول والأفهام. هنا تصبح الهوية الحقيقية هي الانعتاق والحرية. وهذه قد لا تُنال إلا بالموت لأجلها أو على الأقل الاستعداد للموت لأجلها. أوليس الذين ضحوا بأرواحهم في غزة كتبوا شهادة هويتهم بالموت. أوليس الذين بقوا هناك رغم يوميات الموت المعلن كتبوا هوياتهم بالاستعداد للموت. وليس في غزة وحدها طريق الموت هو طريق الحياة. والموت هنا ليس نهاية القصة، فهو الطريق الى الحرية وتأكيد الهوية أو ما هو أفضل.
وإذا كانت الهوية في أسمى تجلياتها لا تُنال إلا بالحرية، والحرية لا تنال إلا بالموت، أو بالاستعداد له، ألا تصبح الهوية هنا هي الموت، أو مرادفا له. لذا نحن نعيش على أمل الحرية على أمل الموت...
الأحياء فقط هم الذين يعيشون على أمل الموت.












تجديد حبس شاب أشعل النار في شقة فتاة رفضت زواجه
القبض على أحد أنصار مرشح لإطلاقه أعيرة نارية ابتهاجًا بفوزه في انتخابات...
التحقيق مع 3 أشخاص ادعوا تزوير نتائج الانتخابات البرلمانية فى المنيا
القبض على قائد توك توك وزميله سار عكس الاتجاه واصطدم بسيارة بالجيزة
أسعار الذهب اليوم الأحد 16 نوفمبر 2025
أسعار الذهب في مصر اليوم الجمعة 14 نوفمبر 2025
سعر الذهب في الصاغة اليوم الأربعاء 12 نوفمبر 2025
سعر الذهب يستقر فى بداية تعاملات اليوم