الثلاثاء 25 نوفمبر 2025 07:39 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : المعدة أذكى من المخ

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

في غزة، يبدو أن العالم كله يتصرّف وكأن العقل صار رفاهية، وأن المعدة – نعم المعدة! – أصبحت أزكى وأكثر إنسانية من مخ كثيرين يجلسون على مقاعدهم الوثيرة، يلوكون بيانات الشجب كأنها علكة بلا طعم، بينما طفل في خيمة غارقة يبحث عن لقمة ناشفة لا تذوب في وحل المطر والحصار.

في غزة، المعدة تفهم أكثر مما يفهم خبراء السياسة:
المعدة تحفظ شكل الجوع، تميّز صوته، تعرف ارتجافه، وتعرف أن رغيف الخبز ليس مجرد "كمية سعرات" كما يقول المحللون، بل حياة كاملة تُمدّ يدها لتبقى يومًا إضافيًا. المعدة الغزّية أذكى من مخّ قادة العالم، لأنها لا تكذب ولا تتجمّل… هي تعرف الوجع حين ينقبض الجدار الداخلي لها وتبكي بصمت.

أما المخ؟
يا سلام! المخ مشغول بالمفاوضات، بالتسويات، بالابتسامات للمصورين، بالتصريحات التي تُكتب على عجل ثم تُرمى في أرشيف العجز الدولي. المخ يبرر، ويحلل، ويعيد ويزيد، بينما طفل في غزة يفتح عينيه على ضوء شمعة، ويحسب كم يومًا يستطيع أن يقاوم دون أن يتعلم هواية "النوم على معدة فارغة".

المخ العالمي يسأل: "ما الحل؟"
والمعدة الغزّية تجيب: "هات أكل… والباقي فُض مجالسة!"

المخ يتحدث عن هدنة، والمعدة تتحدث عن وجبة.
المخ يناقش مستقبل الشرق الأوسط، والمعدة تناقش كيف تجعل كسرة خبز رفيعة تكفي ثلاثة أطفال.
المخ يزور غزة على الورق، والمعدة تعيش غزة على الحقيقة.

الساخر المؤلم أن العالم يتصرف وكأن الغزّيين يتظاهرون بالجوع… وكأن الخيام الغارقة مجرد ديكور شتوي… وكأن الأطفال الذين يرتجفون في الليل هواة دراما!
هنا المفارقة: المعدة لا تعرف التمثيل، لكن المخ – المخ الدولي – أستاذ كبير في الإخراج المسرحي.

ومع ذلك، ورغم الغرق، ورغم الجوع، ورغم الصمت العالمي المريض… ما زال أهل غزة يمشون برؤوس مرفوعة.
يضحكون رغم الحصار، ويتقاسمون اللقمة رغم الألم، ويثبتون كل يوم أن الإنسانية الحقيقية وُلدت من جديد على تراب غزة، بينما صارت عقول العالم في غيبوبة طويلة.

غزة ليست مجرد قصة حصار…
غزة درس في أن المعدة التي تصرخ جوعًا قد تكون أشجع من مئات العقول التي تصرخ خوفًا من قول الحقيقة.
غزة تقول للعالم:
"معدتنا أزكى من مخّكم… ليس لأنها تريد أن تكون، بل لأنكم أجبرتموها."

وفي نهاية هذا المشهد المقلوب، تتجلّى الحقيقة بلا رتوش: غزة اليوم ليست مجرد أرض محاصرة، بل ميزان أخلاقي كُشف فيه عُطل العالم كله. هناك، وسط الطين والبرد والجوع، ينتصر البسطاء على كل ما هو دموي وعابر وزائل. هناك، حيث المعدة تصرخ لتذكّر العالم بأنه فقد مخه، وحيث طفل واحد جائع يهزم ألف مؤتمر، وأمٌ تبحث عن رغيف تُحرج كل ما يسمى "قوى كبرى".

غزة اليوم تقول للعالم بوجهٍ محطم وابتسامة عنيدة:
"إن كنتم فقدتم عقولكم، فنحن ما زلنا نملك قلوبنا، وما زالت بطوننا الجائعة أنقى من حساباتكم."

وما أقسى أن يصبح الجوع أكثر حكمة من العواصم، وأن تتحول الخيام الغارقة إلى منابر تفضح كل من باع وباعَد وتناسى.
فغزة، رغم الخراب، لا تزال أشرف نقطة ضوء في هذا العالم الرمادي، الشاهد الأخير على أن الكرامة يمكن أن تتنفس حتى تحت الركام، وأن الإنسان الحقيقي يولد حين يسقط الجميع… إلا أصحاب المعدة الجائعة والقلب الذي لا ينكسر.

المعدة أذكى من المخ حسين السمنودي الجارديان المصرية