الأحد 21 ديسمبر 2025 12:06 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. نهال أحمد يوسف تكتب : ​إلى السيد رئيس الجمهورية.

د. نهال أحمد يوسف
د. نهال أحمد يوسف

​أكتبُ إليكم لا رغبةً في استحضار السلطة في كل شأن، بل اضطراراً بعدما تآكلت جدران الصد في مؤسساتنا المعنية بصياغة العقل والوجدان. لطالما آمنتُ أن الدولة الرشيدة هي التي ينهض فيها كل مسؤول بعبء أمانته دون حاجة لتوجيه من القمة، ولكن حين يتحول "الإعلام" من منارة للتنوير إلى معول لهدم الهوية، وحين تصبح "الثقافة" ساحة مستباحة للمتربحين على حساب ثوابت الأمة، فإن النداء إليكم يصبح ضرورة وجودية لإنقاذ ما تبقى من روح مصر.
​سيادة الرئيس..
​إننا نعيش في ذروة "حرب الوعي"، وهي حرب لا تُدار بالبارود، بل بالصورة والكلمة، وبتشويه القامات الفكرية المصرية والنيل منها علناً في "تريندات" الإعلام التجاري التي تقتات على الفضائح والابتذال، ثم بالدراما الموجهة التي تعيد صياغة وعينا بما يخدم الأجندات الربحية. وللأسف، نجد أنفسنا اليوم أمام اختراق ناعم ومنظم، تقوده منصات إعلامية تتدثر باسم "مصر" (كما في تجربة "إم بي سي مصر" وغيرها)، حيث يُستخدم اسم هذا الوطن العظيم كمجرد "علامة تجارية" لتمرير محتوى لا يشبهنا، بل ويمعن في تشويهنا. إن إلحاق اسم مصر بكيانات تكرس للتفاهة هو استنزاف لرصيدنا الحضاري وتزوير لهويتنا، وهو وضع يفرضه تغول الأهداف الربحية المادية التي أطاحت بالرسالة الوطنية السامية، واستبدلتها بصناعة "التريند" اللاهث وراء المشاهدات، مما جعل قيمنا العريقة مادة للمزايدة في سوق النخاسة الإعلامية، حيث يُباع الوعي لمن يدفع أكثر، حتى لو كان الثمن هو تمزيق النسيج المجتمعي وتسطيح عقول الأجيال القادمة.
​إن هذا الانحدار، يا سيادة الرئيس، لم يتوقف عند حدود الابتذال، بل امتد ليمس أعمق جذورنا عبر النيل المتعمد من رموزنا التاريخية؛ إذ نرى اليوم إنتاجات وتغطيات تُصر على إظهار الرمز المصري في قوالب مشوهة أو باهتة، وتختزل تاريخنا العريض في قصص البلطجة والانحلال، وكأن الشخصية المصرية قد أُفرغت من محتواها الحضاري ولم يعد لها وجود إلا في "القبح". إن هذا الإمعان في تصدير صورة ذهنية رديئة عن مصر يخدم أهدافاً تسويقية في الخارج، تعتمد على استهلاك "المسخ" وتهميش "الأصيل"، مما يؤدي بالضرورة إلى تسطيح الوعي الجمعي والاحتفاء بـ "اللا محتوى"، حيث يُصنع من الجهلاء قدوات، ويُدفع بالعلماء والمثقفين الحقيقيين إلى غياهب التهميش، بحجة أن رصانة الفكر لا تدر أرباحاً كما يفعل "التهريج".
​وعلى وقع هذا الصخب التجاري، ينمو اغتراب ثقافي حاد يفصل المواطن عن أصالة واقعه، ويحاصره بنمط حياة مادي استهلاكي يقتل لديه روح الانتماء، ويجعله مجرد "رقم" في آلة إعلامية كبرى تابعة لأجندات لا تعنيه. إن "القوة الناعمة" لمصر هي أمن قومي بامتياز، ولا يجوز قانوناً ولا أخلاقاً أن تُترك لقمة سائغة في يد شركات عابرة للحدود، أو فاسدين محليين يضعون المكسب السريع فوق المصلحة القومية العليا، ويمررون مخططات تمييع الهوية تحت لافتات براقة للترفيه والربح.
​سيادة الرئيس..
​لقد بلغ السيل الزبى، ونحن بحاجة اليوم إلى "انتفاضة ثقافية" شاملة تفض الاشتباك فوراً بين اسم "مصر" العظيم وبين كل من يستغل هذا الاسم لإهانة كرامة المصريين أو العبث بوجدانهم. إن الإصلاح الاقتصادي والعمراني الذي تقوده الدولة لن يكتمل ما لم يُسند بوعي صلب وهوية شامخة لا تُباع ولا تُشترى. إننا نطالبكم بوقفة حاسمة تطهر مؤسساتنا الإعلامية والثقافية من كل من خان أمانة الكلمة وسلع الوعي الوطني، لتعود مصر كما كانت دوماً: منارة للحق والخير والجمال، لا ملحقاً إعلانياً في منصات الآخرين.
​حفظ الله مصر، وحفظ وعي شعبها العظيم.
​مواطنة مصرية

د. نهال أحمد يوسف ​ إلى السيد رئيس الجمهورية. الجارديان المصرية