د. أحمد يوسف علي يكتب : اللغة العربية في سجنها الإجباري
يهل علينا كل عام يوم الاحتفال باللغة العربية، والاحتشاد لهذا المعنى الجميل.فما أجمل اللغة وما أجمل أساليبها. وما أوقع اللغة في حياتنا بالأمس واليوم والغد. ولكني مع ذلك أشعر أن هذا الاحتفال نوع من إبراء الذمة من مسؤولية لم ننهض بها، ومن واجب تقاعسنا عن أدائه.فاللغة ليس لها حضورى موسمي، ولا عيد ننتظره كل عام كما ننتظر عيد الفطر أو عيد الأضحى. ولا تغيب عنا فننتظر عودتها، ولا تغيب ثم تشرق. اللغة في حياتنا حقيقة من حقائق وجودنا، ومقوم من مقومات شخصيتنا، وبيت يسكننا كما نسكن فيه. نصوغها حين نصوغ مسراتنا، وأحزاننا وعوطفنا وانفعالاتنا وإحساسنا بالعابر والبسيط من أحداث يقظتنا ومنامنا.
هي الصلة بيننا وبين أزماننا التي مضت، وغابت عنا أشكالها المادية واضطراباتها اليومية، ولم يبق لنا منها إلا صور تحفظها اللغة، وتستدعيها الذاكرة، وتعمل أدواتنا التحليلية في فهمها وتأويلها. هي العلاقة الوطيدة بين هذه الأزمان، وبين ما يناقضها من أزمان عند غيرنا من الأمم دخلنا أو دخلت معنا في صراع الوجود والبقاء. ومضت هذه الأزمان ولم يبق منها إلا صورها التمثيلية تلك التي نراها حين نفتح كتاب اللغة، وكتاب الشعر، وكتاب التاريخ، وكتاب الفلسفة والعقيدة وغيرها من الكتب. فليس أبقى من اللغة جامعا ورابطا ومؤلفا وممتعا ومطربا ومؤنسا ومواسيا. هي رابط الوجدان الجمعي، وسر من أسرار الوجدان الفردي. لذلك ليس للغة عيد أو ذكرى ننتظرها كل عام أو كل موسم من المواسم.
ونحن نعيش زمننا وندرك كم ساءت علاقاتنا باللغة، وكم اضطربت صورتها في مخيلة الكبار والصغار، وكم توارت مكانتها بالحجاب، كما نعلم الأسباب التي آلت باللغة إلى هذا المآل. فكم انعقدت مؤتمرات دولية ومحلية، كانت مثل سوق عكاظ نحرت فيها الذبائح وألقيت فيها الأشعار، ومنحت فيها الجوائز والشارات والنياشين، وصفقنا وهتفنا واسترحنا، ثم مضينا ولم نقض من منى كل حاجة، ولم تسل بأعناق المطي الأباطح. ثم أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، وأرخينا حبال الانتظار لموسم قادم من مواسم سوق عكاظ، وتركنا المليحة تلفظ أنفاسها وهي ترنو إلينا. والتفتنا عنها إلى امتلاء البطون، وخداع العقول، وتزييف العواطف والوجدان. نحب أباسفيان ولا نحب عمر، ونأسى لعثمان ونقتل"علي" ثم نقيم على ذكراه وذكرى أولاده مآتم اللطم والبكاء وشق الجيوب تطهيرا لنا من خزينا.
اللغة في بلادنا من المحيط إلى الخليج تحاصر وتسجن فيما يسمى بـ "تحديد الإقامة" فإن ذهبت إلى منصة التعليم، وجدت كل لغات العالم الحي باذخة في مدارسنا. فهذه إنجليزية، وأخرى فرنسية، وتلك ألمانية، وهلم جرا. والعربية بين هؤلاء تمشي على استحياء غريبة في بيتها. لها حصة محدودة بحدود الفصل، ولا تخرج منه إلى تفاعل الأنشطة والمنافسة، ولا إلى الاحتفالات، ولا في لغة العلوم، ولا في منافسات الابتكار والنحفيز.كأنها وقعت في حزي وعار لايستحب البوح به، ولا الحديث عن صاحبته.
وإن ذهبت إلى سوق العمل في بلدنا العربية، فإن أصحاب العمل يطلبون من تعلم لغة من اللغات الأجنبية. وإن وليت وجهك شطر منصة من منصات قضاء الجوائج في بلد عربي، وجدت لغة أجنبية في انتظارك، ووجدت لغتك التي هي أنت وكأنها عبء فوق الكاهل. وإن مضيت إلى حصون العربية على امتداد الساحات العربية وهي المجامع، فقد خاب قصدك. لأن هذه المجامع مجامع تاريخية مثل توت عنخ آمون، ليس حضور فعلي ولا دخل لها بسياسات تعليم العربية، ولا بسجنها بين بلدانها، وغربتها بين أبنائها.
أما إن شئت أن تصغي إلى الإذاعة أو تشاهد التليفزيون، فقد اخترت المؤلم والممض، وكل ما يذهب بحلم الحليم. أما أبناء العربية من الرؤساء والملوك والوزراء وكبار القوم، حين يخطبون أو يتكلمون، فقد غلبت عليهم عجمة اللسان، واستسهال اللحن والرطانة. فلا تعرف إن كانوا عربا أم عجما. ثم إذا ذهبت معهم إلى الأمم المتحدة، فلا يتحدثون بالعربية مثلما يتحدث غيرهم بلغته، مع أن العربية إحدى اللغات السبعة المعتمدة. ماذا بقي إذن للعربية في بلادنا؟ لم يبق لها إلا خطباء المساجد ووعاظ الكنائس. وهؤلاء إن أقاموا جملة، أسقطوا أختها، وتمادوا في الرفع والنصب والتنوين في غير موضع.
إن كنا نريد للعريية أن تبقى وأن تزدهر، فينبغي إطلاق سراحها من سجن الإقامة الجبرية، والالتفات إلى سياسات التعليم وبرامجه منذ نعومة أظفار المتعلم حتى التخرج في الجامعة، وتمكينها من سوق العمل، ووضع معايير يلتزم بها الإعلام، ويحرص على توفيرها فيمن يخاطب الناس. وإلى متى تظل مجامع العربية تاريخية واستراحة لمن كان النقيب خاله؟












النيابة العامة تصدر قرارات عاجلة بعد تسرب غاز الفيوم بجوار مستشفى الصدر
تأجيل محاكمة سارة خليفة و27 متهما آخرين في قضية المخدرات الكبرى لجلسة...
اليوم. .ثانى جلسات إستئناف توربينى البحيرة على حكم إعدامه
القبض على متهم بإشعال النار في سيارة مدير شركة بالقاهرة
أسعار الذهب في الصاغة اليوم الجمعة
سعر الدولار اليوم الخميس 11 ديسمبر 2025 مقابل الجنيه المصري
أسعار الدولار أمام الجنيه اليوم الأربعاء
أسعار الذهب اليوم في مصر..